يحتفل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والثلاثين (9 - 16 نوفمبر 2014) بمئوية المخرج الكبير هنري بركات (11 يونيو 1914 - 23 فبراير 1997)، وكنت قد تشرفت بلقاء المخرج الكبير، في أعقاب الإعلان عن فوزه بجائزة الدولة التقديرية، وأذكر أنني هاتفته، وأنا محرر شاب، أساله الموافقة على إجراء حوار معه، وكنت أعلم حجم ما يتمتع به من دماثة خلق، وتواضع جم، لكنني لم أصدق أنه سيوافق، ويوجه إلي دعوة لزيارته في منزله الريفي، وهناك فوجئت به يستقبلني بشوشاً، مُرحباً بحرارة، وكأنني صديق قديم، وهو يعرف أنها المرة الأولى التي نلتقي فيها!

Ad

  جلست أمامه وأنا أتوقع أن يتحفظ في حديثه، كوني غريباً أقبل عليه من دون سابق معرفة، لكنني فوجئت به يُعلن سعادته بجائزة الدولة، ويعترف، بزهد الفيلسوف، أنه لم يتوقع فوزه بها، لكنه في حاجة شديدة إليها على الصعيد المعنوي.

  لحظتها أيقنت كم كانت الأقدار رحيمة بي عندما ساقتني إليه، وهو يُدرك أن الوقت قد حان ليُجرب فضيلة أخرى غير فضيلة الصمت التي أرهقته، وجرّت له المشاكل؛ فما كان منه سوى أن كشف لي، بمرارة، حقيقة أزمته مع فيلم «تحقيق مع مواطنة» (1993)، الذي قرر منتجه أن يطرحه في صالات العرض التجارية قبل أن يكتمل تصويره، وفشل في إقناع الجميع بالتصدي لهذا العبث، عندها  اتخذ قراراً نهائياً بالاعتزال، غير أن الجُرح لم يندمل، وطفح قيحه مع عرض التلفزيون المصري النسخة الناقصة والمشوهة على شاشته، فانتابه حزن كبير كاد أن يقوده إلى الإحباط والاكتئاب.

  استشعر «بركات» (المتسامح) أنه عاجز عن التعامل مع المنتجين الدخلاء، وهو الذي تعامل مع آسيا داغر ورمسيس نجيب وغيرهما من المنتجين الكبار، ولم تكن فاتن حمامة تمنح ثقتها لمخرج سواه، فآثر الانسحاب في صمت مكتفياً بأن يتذكر الناس  أنه مخرج «الحرام»، «دعاء الكروان»، «في بيتنا رجل»، «الخيط الرفيع» وغيرها من الروائع التي تحولت إلى «كلاسيكيات»؛ بسبب ثقافته الموسوعية، وإيمانه بأهمية النص الأدبي، وهو ما أكده لي بقوله:»النص الأدبي هو الأصل، وعندما أضع يدي على نص أو رواية، أشعر كأنني عثرت على كنز ثمين»، ولم يكن مبالغاً، فقد كان صاحب مقدرة مُذهلة على إيجاد معادل بصري للنصوص الأدبية التي اعتمد فيها على دُرر أدبية ثمينة كتبها: طه حسين، يوسف إدريس، إحسان عبد القدوس، لطيفة الزيات، أمين يوسف غراب، سكينة فؤاد، وعن قصة «الكونت دي مونت كريستو{ لألكسندر دوما قدم فيلميه «أمير الدهاء» و{أمير الانتقام».

  في «وصلة الصراحة»، التي لم أتوقعها، كشف «بركات» أن قصة «الحب الضائع» تأليف الدكتور طه حسين لم تكن رواية مصرية لغرابة أحداثها، وأسماء شخصياتها الأجنبية، لهذا اختار تمصيرها، غير أن القنبلة المدوية، التي فجرها في حواره، أن د. طه حسين لم يكن واثقاً أن فاتن حمامة ستجسد شخصية «آمنة» بدرجة مقنعة، وفور أن انتهى من متابعة الفيلم سارع إلى التأكيد أنها كانت أكثر صدقاً وتعبيراً على الشاشة من «آمنة» التي كتبها على الورق، وانتهز الفرصة ليُشيد بالدور الكبير الذي أدته  فاتن حمامة في أفلامه، ولم يتردد في القول إن وجودها كان عاملاً مساعداً في نجاح أفلامه، وأنها منحته أكثر مما طالب به، واختتم الحديث عنها قائلاً : «لو انتزعناها من فيلم «أفواه وأرانب» لأصبح فيلماً «بلا طعم»، وفقدت أحداثه مصداقيتها».

  «بركات» رفض تصنيف «في بيتنا رجل»  بأنه فيلم سياسي، ووصفه بأنه فيلم وطني، مُبرراً رأيه بأنه لا يُقدم أفلاماً تنطلق من «إيديولوجية» اعتنقها، مثلما يرفض الدخول في دهاليز السياسة، واعترف بأنه أخطأ عندما تنازل، تحت ضغط الظروف، ومراعاة الجانب الاقتصادي لصناعة السينما، وكشف عن سر مثير بقوله إن قراراً صدر بمنعه من السفر، وهو على سلم الطائرة في طريقه إلى مهرجان «كان»  لتمثيل مصر بفيلم «الحرام»، وفي أعقاب تلك الواقعة اتخذ قراراً بالسفر إلى لبنان؛ حيث  سار على نهج يوسف شاهين، الذي أخرج فيلمي «بياع الخواتم»، «سفر برلك» بطولة فيروز، وشجعته الحفاوة المنقطعة النظير على البقاء في لبنان، وإخراج باقة  أخرى من الأفلام.

  «زعيم المحافظين» هو اللقب الذي اخترته للمخرج الكبير «بركات»، بعدما تولدت لدي قناعة بأن البيئة المحافظة التي نشأ فيها، تركت تأثيرها الواضح على شخصيته، وأفلامه، وكانت سبباً في اتجاهه «الكلاسيكي»، ووافقني على ما قلت، وأضاف أنه انتمى إلى عائلة شديدة الالتزام بالتقاليد، وأنه كان ينحني ليقبل يد والده، ولا يجرؤ على أن يرفع صوته أثناء وجوده بالمنزل، وبالمثل كانت علاقة الاحترام المتبادل بين والده ووالدته، ومن ثم وصفت أفلامه بأنها «عائلية ولا تخدش الحياء».