الجنود الأميركيون مفتونون بسحر حروب يخسرونها!
أظهر استطلاع رأي جديد أجرته صحيفة «واشنطن بوست» وتناول قدامى حربَي العراق وأفغانستان أن هؤلاء الجنود لا يجدون غالباً ما يجعلهم يندمون على قرارهم الانخراط في الجيش، عندما يتأملون فيه اليوم.
تبدو أمتنا اليوم أمة محاربة تعتمد على متطوعين لتملأ صفوف قواتها المسلّحة، بغض النظر عمّا إذا كان ذلك سيئاً أو جيداً. يملك الشبان والشابات الذين يلتحقون بصفوف الجيش دوافع مختلفة، صحيح أن بعضهم يقدِم على هذه الخطوة لأسباب سامية أو حتى مثالية، إلا أن كثيرين يعتمدون على اعتبارات أكثر عملية، مثل وظيفة تمنحهم راتباً وحوافز أو فرصة للهرب من حياة مملة أو مخيبة للآمال. في مطلق الأحوال، يدرك قليلون من هؤلاء المتطوعين مدى جدية الخطوة التي يتخذونها، خصوصاً خلال فترات الحرب. فلا يعتبر المسؤولون عن عمليات التجنيد- الذين يحاولون بلوغ المعدل الشهري الضروري من الشباب الناشط المستعد- توضيح ما تعنيه الخدمة في منطقة حرب بعيدة من أولوياتهم. رغم ذلك، أظهر استطلاع رأي جديد أجرته صحيفة "واشنطن بوست" وتناول قدامى حربَي العراق وأفغانستان أن هؤلاء الجنود لا يجدون غالباً ما يجعلهم يندمون على قرارهم الانخراط في الجيش، عندما يتأملون فيه اليوم. فقد أكّد نحو تسعة من كل عشرة منهم أنهم مستعدون لإعادة الكرّة، كذلك أقر معظم مَن شاركوا في حربَي العراق وأفغانستان أنهم يفتقدون أمراً ما اختبروه هناك.لا شك أنهم لا يفتقدون فرصة قتل المجاهدين والسعي لنشر الديمقراطية ونمط الحياة الأميركي، بل الرفقة التي اختبروها خلال تلك الظروف القاسية. ومن هذا المنطلق، لا يختلف قدامى الحرب اليوم عن الأجيال السابقة، لكن ما يحيّر مَن لم يرتدوا يوماً زي القتال واقع أن تلك الروابط التي تجمع بين مَن خدموا في الجيش خلال فترات الحرب (وأحياناً خلال فترات السلم) تمتاز ببداهة وألفة قلّ نظيرهما في مجالات الحياة الأخرى.
تستغل هوليوود منذ عقود رواية هذه الزمالة وكل قيمها بهدف إمتاع المشاهدين. لكننا حظينا أخيراً، في محاولة لتقديم نوع غريب من التكريم المبطّن للحياة العسكرية، بمجموعة كبيرة من المسلسلات التلفزيونية التي تُظهر أن العلاقات بين العاملين في مراكز الشرطة وفرق الإطفاء، والمستشفيات، ومكاتب المحاماة قوية بقدر تلك التي تصهرها نيران الحرب. لكن هذه تشكّل في الواقع أفلاماً عن حروب لا حروب فيها، إنها رمز ثقافة باتت العلاقات فيها عابرةً، وأكثر سطحية، وبعيدة كل البعد عن الحقيقة، فلا عجب، إذاً، في أن قدامى الحرب، الذين يعيشون في تلك الثقافة، يعتبرون خدمتهم في الجيش خلال الحرب مرحلة اختبروا فيها أمراً حقيقياً بالتأكيد وربما هادفاً، إذا تأملناه من زاوية محددة.حتى قدامى حرب فيتنام يبدون اليوم أكثر ميلاً للشعور بالحنين إلى فيتنام، مع أن ذلك قد يشير على نحو أدق إلى جهد لإسكات مشاكلهم النفسية العالقة، فنرى راهناً الكثير ممن أقسموا عند مغادرتهم ذلك البلد على ألا يعودوا إليه مطلقاً تجدهم اليوم يسعون للرجوع إليه. نتيجة لذلك، يمكننا أن نتوقع بعد عقد أو اثنين من اليوم أن تنظّم شركة سفريات مقدامة رحلات سياحية تعيد الجنود القدامى إلى الأنبار أو قندهار، وهكذا يستمر سحر الحرب.باستثناء الكشف عن تفضيل واضح وغير مبرَّر لجورج بوش الابن على باراك أوباما كقائد أعلى للجيش، لم يحمل استطلاع "واشنطن بوست" مفاجآت كبيرة.لا تُعدّ نظرة قدامى الحرب هذه إلى الجنود (وأنفسهم على الأرجح) على اعتبار أنهم أكثر وطنية وتمسكاً بالأخلاق، مقارنة بالمواطنين الآخرين، جديدة، فهي تشكّل أحد رموز العصر التقليدية، فعند تأمل المقالات الصحافية والخطابات السياسية، نلاحظ أن مَن يتطوعون في الخدمة في الجيش يُعتبرون أفضل من مجرد مدنيين عاديين. ويبدو أن الجنود القدامى يأخذون هذه المسألة على محمل الجد، فقد عبّر أكثر من ثلاثة منهم مقابل واحد عن "شعورهم الجيد" تجاه تعابير الدعم التي يتلقونها من الشعب (من الأشرطة الصفراء إلى الإعلانات)، والتي تؤكد ارتفاع مكانة الجندي وتحوّله إلى رمز وطني.لم تترك التقارير الكثيرة عن الاعتداءات الجنسية بين صفوف الجيش تأثيراً يُذكر في الشعور الجمعي باحترام الذات، وينطبق الأمر عينه على غش جنود سلاح الجو في امتحانات الكفاءة، وتصرّف بعض الجنرالات كمراهقين حمقى. لا عجب، إذاً، في أن الجنود القدامى يعتقدون أن من الضروري إعطاءهم الأولية خلال البحث عن وظيفة. فمن وجهة نظرهم، تجب مكافأة الأخيار.أعتقد أنا شخصياً أن من الأجدى لهؤلاء الجنود أن يخفضوا من تعاليهم هذا، وقد يكون من الأفضل أيضاً أن ينظروا بعين الريبة إلى كل تلك الأشرطة الصفراء وغيرها من تعابير "الشكر على الخدمة في الجيش".ولكن ثمة سؤال آخر أرغب في أن أسمع الجواب عنه من قدامى الحرب الشبان: لم تحقق المؤسسة العسكرية الفضلى في العالم النصر في العراق، ولن تنجح في ذلك في أفغانستان، فما السبب؟Andrew Bacevich * مؤرخ عسكري في جامعة بوسطن له كتاب Breach of Trust: How Americans Failed Their Soldiers and Their Country.