لا مهرب منها... لكن حذار من «شيطان التفاصيل»!

نشر في 15-02-2014
آخر تحديث 15-02-2014 | 00:01
 إيكونوميست ها نحن نعود مجدداً إلى مؤشرات متلألئة توحي ببدء موجة كبيرة جديدة من الخصخصة. هناك عوامل رئيسية بارزة توضح توافر مؤشرات لعمليات بيع أصول مملوكة للدولة أهمها؛ تردي وسائل التمويل العامة، وملابسات وظروف أسواق المال، علاوة على توافر محفظة كبيرة من الأصول المملوكة للدولة. وفي ظل تلك الظروف الراهنة فقد تقرر مجموعة حكومات من فئات تنموية مختلفة ضخ شرائح كبيرة من الاقتصاد الوطني في السوق عما قريب.

وقد أدت الأزمة المالية ومزيجها المميت من انهيار الائتمان، وهبوط عوائد الضرائب، وبرامج التحفيز الضخمة، وعمليات انقاذ البنوك، إلى حدوث زيادة دراماتيكية في الدين العام في معظم الدول المتقدمة. وقد ارتفع معدل الدين العام كنسبة مئوية من الناتج المحلي الاجمالي في دول "منظمة التعاون الاقتصادية والتنمية" (أويسيد)، الذي كان عند حدود 70 في المئة في التسعينيات من القرن الماضي، إلى 113 في المئة في سنة 2013، ومن المتوقع أن يواصل ارتفاعه بدرجة أكبر في السنة المقبلة.

وهذا الاتجاه واضح ليس في الدول التي تأثرت بصورة مزمنة بمشاكل الديون، مثل اليابان وإيطاليا وبلجيكا واليونان، فحسب، بل في دول كان التمويل العام فيها أيضاً تحت السيطرة التامة قبل الأزمة المالية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. المعروف أن برامج الخصخصة الواسعة النطاق تخفف من أعباء التمويلات العامة لأن العوائد النقدية يمكن أن تستخدم من أجل علاج أزمة الديون العامة، كما أن توفير دفعات الفوائد قد يعطي مهلة إلى سياسة التوسع المالية. وتعزز توقعات معدلات الفائدة المرتفعة هذه الجدلية، وهو ما يسير بالتوازي مع الأثر الإيجابي الذي يولده التصنيف الائتماني لبرنامج الخصخصة المستدامة.

وتنطوي أوضاع السوق على أهمية مماثلة لأنه ما من حكومة، ومثل أي جهة أخرى مالكة لأصول، ستعمد إلى بيع أسهم في سوق يعاني كساداً.

ومن جديد تشير البوصلة إلى الاتجاه نفسه، كما أن أسواق الأسهم العالمية قد وصلت في الوقت الراهن إلى مستويات ارتفاع تاريخية. وفي السنة الماضية حققت الأسهم الأميركية أفضل عوائد سنوية منذ 2007، وصعدت التقييمات بصورة هائلة بالنسبة إلى العديد من الأصول المدرجة في الاقتصادات الناضجة.

وفي ضوء احتمالات النمو الراهنة لاتزال الأوضاع إيجابية، وفي ظل ظروف السوق الحالية تستطيع الحكومات انتهاز هذه الفرصة من أجل تحقيق أسعار جيدة لأسهمها المدرجة، إضافة إلى عوائد كبيرة في الأسواق الرئيسية في حالات طرح الاكتتاب الأولي، وذلك في ضوء ازدياد شهية المستثمرين العالميين لاقتناص المزيد من حقوق الملكية، وهو ما تبين من أثناء طرح الاكتتاب الأولي الأخير في البريد الملكي البريطاني.

وقد تحركت حدود ملكية الدولة بصورة كبيرة خلال العقود القليلة الماضية، في ضوء موجات واسعة النطاق من الخصخصة شهدتها أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وأعقبها عمليات إنقاذ أخيرة من قبل الحكومات في الدول المتقدمة التي تعرضت لأزمات، وكذلك في ضوء استثمارات تدفقت من صناديق الثروة السيادية في الأسواق الناشئة. وعلى أي حال، فقد بلغت ملكية الدولة المتبقية في الشركات المدرجة وغير المدرجة في أسواق المال سواء في صورة عقارات وبنية تحتية حوالي 9 تريليونات دولار.

وهكذا بات لدى الحكومات ملكية عامة جاهزة للبيع ونافذة مثيرة للاهتمام لاقتناص فرص، لكن يتعين عليها أن تتذكر الدرس القاسي الذي تعلمته من عمليات الخصخصة السابقة.

وفي المقام الأول، يبنغي على الحكومات وبشكل دائم تطبيق القاعدة المالية الأساسية في عملية الخصخصة: لا تقدم على الخصخصة إلا إذا كانت عملية البيع ستسهم في تحسين القيمة الصافية التي تجنيها الدولة. لا يجب بيع الأصول المملوكة للدولة إلا إذا كانت عوائدها المتوقعة لدى استحواذ القطاع الخاص عليها تتجاوز معدلات الفائدة على الدين العام. والنتيجة الطبيعية لهذه القاعدة هي أنه ينبغي على الحكومات طرح الأصول في مزايدات مفتوحة للمنافسة من أجل الحصول على أفضل سعر في السوق. ويتعين تفادي ممارسات "الهبات" في أمور الخصخصة بالبيع إلى المقربين (مثل تلك التي جرت في روسيا)، أو طرح الأصول بقيم متدنية في الأسواق العامة، لأن مثل تلك الممارسات تنتهك القواعد الأساسية المتعارف عليها.

ولا شك أن الحصول على أسعار مرتفعة لقاء عملية البيع يعد هدفاً موضوعيا ومشروعاً لضبط المالية العامة للدولة، لكن تحويل شركة حكومية عملاقة إلى كيان احتكاري في يد القطاع الخاص من أجل زيادة السيولة النقدية يعتبر كارثة اقتصادية.

لسوء الحظ يحفل تاريخ الخصخصة بعمليات بيع سيئة في صناعة الشبكات حيث تم تجاهل الكفاءة والفعالية لتغليب مصلحة الانقاذ المالي الفوري.

هناك الطريقة المعتادة في عملية بيع حصص جزئية من الأصول المملوكة للدولة التي تؤدي إلى كيان احتكاري سيئ التنظيم. وبموجب ذلك النموذج تحصل الحكومة على عوائد فورية من البيع، وعلى دفعات مستقبلية على شكل إيجارات من أرباحها عبر حصتها المتبقية في الشركة. وهذه الإيجارات الاحتكارية التي يسددها مستهلكو الخدمات العامة يتم تشاطرها بين وزارة الخزانة وقلّة من المساهمين السعداء. ويبدو أن الخصخصة الجزئية التي تم الإعلان عنها لـ"مؤسسة البريد الإيطالية" الضخمة المملوكة للدولة تندرج تماماً تحت هذا النموذج من الخصخصة. يحين التوقيت الصحيح للخصخصة بعد إجراء عمليات التحرير والتنظيم.

أثارت الأزمة المالية الراهنة الكثير من التساؤلات حول دور الدولة في الاقتصاد، وانتقدت بشكل ساخر النماذج الاقتصادية المبنية على سياسة عدم التدخل الحكومي، والأسواق غير المنضبطة، والرأسمالية المالية المنفلتة. يشار إلى أنه في حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كانت الخصخصة توضع في إطار أيديولوجي مدعوم بفكر التيارات اليمينية. وبالطبع فإن هذا ليس الوقت الملائم لإحياء أيديولوجيات قديمة، لكن المهم هنا هو تبني سياسة تصب في خدمة المواطنين ودافعي الضرائب. وكما يقال فإن "الشيطان يكمن في التفاصيل" أثناء مرحلة التنفيذ، لكن الأمر يستحق المحاولة بكل تأكيد.

Bernardo Bortolotti

* أستاذ علم الاقتصاد في جامعة تورين، ومدير مختبر الاستثمارات السيادية في جامعة بوكوني في ميلانو، ومؤسس "بارومتر الخصخصة".

back to top