«الشكوك الاقتصادية» تصيب الاستثمارات بالتبلّد

نشر في 30-11-2013
آخر تحديث 30-11-2013 | 00:01
No Image Caption
في ظل حالة الضعف وفقدان معدلات الاستثمار لحيويتها في العالم الثري، يتساءل كثيرون عن أسباب ادخار الشركات الكبرى للأموال واكتنازها بدلاً من توظيفها... يقول باحثون إن السبب المحتمل يكمن في الشكوك حيال المستقبل- وبعضها «ذاتية المصدر».
 إيكونوميست   يتطلب الاستثمار وجود حالة من الصفاء واليقين الداخلي، فإن اتخاذ شركة ما قرار بناء قدرات إنتاجية خاصة أو إنفاق أموال على بحوث هي في حقيقة الأمر مسألة مجزية غداً، لكن يتعين على الشركة أن تدفع الأموال اليوم. وهذا ما يضع عوائد الاستثمار في خانة الشك متأثرة بعوامل عدة لا تستطيع الشركات التحكم فيها بدءاً بأسعار النفط ووصولاً إلى الأوضاع السياسية. وفي ظل وجود حالة من الضعف وفقدان معدلات الاسثمار لحيويتها في بلدان العالم الثري، يتساءل كثيرون عن أسباب ادخار الشركات الكبرى للأموال واكتنازها بدلاً من توظيفها. ويكشف لنا بحث جديد، أن السبب المحتمل يتمثل في الشكوك حيال المستقبل، مشيراً إلى أن بعض هذه الشكوك "ذاتية المصدر".

حالات عدم اليقين

يفيد منطق الأمور بأن الشك قد يفضي إلى تباطؤ الاستثمار، لكنه في بعض الحالات يعززها أيضاً، كما تقول دراسة أعدها في عام 1996 أفنور بار إيلان من جامعة حيفا ووليم سترينغ من جامعة كولومبيا البريطانية.

كانت أول ملاحظة للمؤلفين هي أن بناء منزل بقصد البيع، مثلاً، يحتاج إلى سنوات. وتعني "فترة البناء المطولة" أن ارتفاع أسعار العقارات سيكون في مصلحة أولئك الذين بدأوا البناء قبل سنوات فقط. وإضافة إلى ذلك، ونظراً لأن المشاريع الطويلة الأجل يمكن تأجيلها أو بيعها أثناء البناء، فإن الأخطار السلبية تكون محدودة. وبكلمات أخرى، فإن إمكان تحقيق منفعة من الاستثمار في مثل هذه الظروف تتفوق على التكلفة المحتملة، ما يجعل الاستثمارات خيارات منطقية رغم المجهول.

يتطلب اختبار مثل هذه النظريات حسابات عملية وتجريبية للعلاقة بين الاستثمار وحالات عدم اليقين وتزايد الشكوك. لكن قياس الشكوك وحالات عدم اليقين مسألة محيرة كما هو شأن فصلها أو تحييدها عن القرار المتعلق بالاستثمار. تؤدي بعض الاستثمارات، مثل الإنفاق بسخاء على حملة إعلانية مكلفة أو شراء شركة منافسة، إلى حدوث حالة من عدم اليقين وانتشار الشكوك.

وفي حالات أخرى يمكن للاستثمارات الضخمة أن تخفض من منسوب القلق إزاء شركة ما. ونظراً لأن العلاقة ثنائية المسار مع حدوث تأثير متبادل بين الاستثمار والشكوك كل منهما على الآخر، فإن الترابط البسيط للجانبين المتباينين يمكن أن يخلط التأثيرات ويشوش الأمر.

عقود «الخيارات»

وقد أظهرت دراسة، أعدها في سنة 2007 نيك بلوم من جامعة ستانفورد، وستيفن بوند من جامعة أوكسفورد، وجون فان رينين من كلية لندن للدراسات الاقتصادية، طريقة لتفادي هذه "الإصابات العكسية". وتناول هذا الفريق بيانات لعينة مكونة من 672 شركات تصنيع بريطانية في الفترة ما بين سنة 1972 حتى 1991، واستندوا إلى معيار تقلبات أسعار الأسهم كمقياس للشكوك وحالات عدم اليقين. وعند النظر إلى الاستثمارات في سنة ما عمد الفريق إلى استخدام عنصر الشك في السنوات السابقة في عملية التحليل. فالمنطق يشير إلى أن حالة الشك وعدم اليقين في الماضي تميل إلى التعرف والتنبؤ بالشكوك الراهنة بشكل أفضل: كان هناك مزيد من الشكوك حول بعض الشركات يفوق شركات أخرى، لكن التقلبات التاريخية لا يمكن أن تتأثر بقرارات الاستثمار الخاصة بشركة ما، ما يجعل المعيار المستخدم للقياس إجراءً سليماً. ويظهر التحليل الذي خلصت إليه الدراسة أنه مع ازدياد الشكوك تعمد الشركات إلى خفض معدلات الاستثمار وتستجيب بقدر أقل لفرص الاستثمار.

وتعتمد دراسة نشرت العام الجاري على بيانات أكثر حداثة وملاءمة زمنية حيث قام لوك شتاين من جامعة ولاية أريزونا، وإليزابيث ستون من "أناليسيز غروب" الاستشارية بدراسة أوضاع 3965 شركة أميركية في الفترة ما بين 1996 و2011، وعمدا أولاً إلى جمع بيانات حول عقود "الخيارات" (وهي أدوات مالية عبارة عن عقود تمنح حق شراء وبيع أسهم في المستقبل). ونظراً لأن أسعار عقود "الخيارات" تمثل تقديرات المتداولين لقيم الأسهم المستقبلية، فإن الفارق الواسع بين سعر السهم عند بيع عقد "الخيارات" والسعر وقت استحقاق العقد يشير إلى درجة أعلى من الشكوك إزاء إلى أين تتجه الشركة. وتتيح المعلومات للباحثين محاولة دراسة مستقبل "التقلبات الضمنية" لكل شركة على حدة.

ويبقى الأمر ينطوي على لغز بحاجة إلى تفسير وحلول: فـ"التقلبات الضمنية" ستميل إلى التأثر بالقرارات الاستثمارية التي تتخذها الشركة.

«التقلبات الضمنية»

ومن أجل التوصل إلى قياس سليم للتقلبات أو الهشاشة استعرض الباحثون أنماطاً من الشكوك التي لا تستطيع الشركات التحكم فيها كالتغيرات في أسعار النفط وأسعار صرف العملات الأجنبية، وهي تؤثر على شركات مختلفة بطرق متباينة.

فعلى سبيل المثال، فإن ارتفاع سعر النفط يعد من الأمور الجيدة بالنسبة إلى منتجي النفط، لكنه سيئ بالنسبة لشركات الطيران، وهو سلبي بصورة طفيفة فقط على متاجر التجزئة. وكخطوة أولية يحاول الباحثون تحديد مدى تجذر عامل "التقلبات الضمنية" في حالة عدم اليقين لكل شركة وانعكاسه على حالة اليقين بالنسبة للاقتصاد الأوسع، أما العوامل الأخرى فيتم تجاهلها ما دامت ذات صلة بقرارات المديرين المتعلقة بالاستثمار.

وتبين للباحثين أن الشكوك المرتبطة بما يحدث في الغد تؤثر بقوة على ما يجري اليوم. ومقابل كل ارتفاع بواقع عشر نقاط مئوية في مقياس الشكوك وعدم اليقين لديهم يطرأ هبوط على الاستثمارات بمقدار نقطة مئوية واحدة. وخلال الأزمة المالية في عامي 2008 و2009، على سبيل المثال، أشارت حساباتهم إلى ارتفاع "التقلب الضمني" بحوالي 40 نقطة مئوية، ما يشير إلى هبوط الاستثمارات بسبب حالة عدم اليقين بنسبة تقل عن أربع نقاط مئوية. وتكشف تلك النتائج أن عنصر عدم اليقين يتحمل مسؤولية نحو نصف معدل الهبوط الإجمالي في الاستثمارات خلال تلك الأزمة. ولم يقتصر الأمر على تراجع مستويات الإنفاق على الأصول العينية، فقد وجد فريق البحث أن الإنفاق الآخر في الأجل الطويل -كتشغيل العمالة والموظفين وإطلاق حملات إعلانية- مني بتراجع أيضاً عند ازدياد معدل الشك وحالات عدم اليقين.

إزاحة الضباب

يتعين على أولئك المعنيين برسم السياسات المالية والنقدية على مستوى العالم الاهتمام بما ورد في هذا البحث. بعض أنواع الشكوط -كالهزات السعرية التي تصيب النفط الخام والحروب- تقع خارج حدود نفوذهم المباشر ولا سلطان لهم عليها. لكن البحث الذي أجراه الباحثون بلوم وبوند وفان رينين يظهر أنه عندما ترتفع مستويات الشكوك تتوقف ردة الشركات إزاء سياسة التحفيز. ومع ارتباك الشركات القلقة يتعين أن يتسم العلاج المتعلق بالأزمة بالسخاء مع إطلاق محفزات لمقاومة الهبوط في حد ذاته، علاوة على إطلاق محفز آخر من أجل تهدئة قلق رؤساء الشركات. ويبدو أن البنوك المركزية تعلمت هذا الدرس: فقد التزم كل واحد من البنوك المركزية ضمن نادي الـ7 الكبار للاقتصادات الكبيرة بمعدلات فائدة متدنية لفترة طويلة.

لكن الحكومات لاتزال تعزز المخاوف من المستقبل. وتبدو الصورة الأكثر جلاء لمظاهر عدم اليقين وتنامي الشكوك داخل العالم الغني في المسألة النقدية، حيث نرى دول الطرفية في منطقة اليورو المتعطشة للسيولة تعتمد بصورة جوهرية على عمليات الإنقاذ النقدي من الدول الثرية الأعضاء في منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي. ومع دنو كل جولة محادثات، بشأن إقامة اتحاد مصرفي أو خطة لضمان الإيداع، يقرر الرؤساء العقلانيون التريث لرؤية ما سيحدث. وقد أفضت أزمة إفلاس الحكومة الأميركية وإقرار رفع سقف الدين في الميزانية داخل الولايات المتحدة إلى تجدد الجدل الدوري حول ما إذا كانت الحكومة ستتخلف عن سداد ديونها (من المقرر أن ينتهي الاتفاق في فبراير المقبل مع توقع بدء جولة جديدة من الجدل والمخاوف)، وتعد تلك المسألة بمنزلة تغذية للشكوك وتنميتها بصورة ذاتية.

لو أن مسار السياسات النقدية والمالية كان أكثر وضوحاً نسبياً، لكان أي انخفاض في درجة الشك سيسهم في تحفيز الاستثمارات ومستويات الإنتاج، وهو ما سينعكس بدوره في شكل تحسين الحالة النقدية والمالية للبلاد. لذا فإن الحكمة تقتضي أنه من أجل تقليص الديون يجب تبديد الشكوك أولاً.

back to top