تكبيل الإفراط في البيع... ولا للوجبات المجانية!
هل حان الوقت كي تطلق الحكومات موجة جديدة من عمليات الخصخصة؟قد تعتبر الخصخصة منطقية في بعض الحالات، غير أن الإقدام على عمليات بيع مكثفة للأصول العامة ليست من الحالات التي ينطبق عليها هذا الوصف. تقوم الخصخصة بصورة جوهرية على سؤال فني رئيسي يتعلق بمسألة "الاستعانة بمصادر خارجية" Outsorcing: هل يتعين على الحكومة تصنيع منتجات أو تقديم خدمات- مثل أجهزة الحواسب الآلية أو عقود تنفيذ دهانات- أم أنها تكتفي بشراء تلك المنتجات أو الخدمات المتوافرة أصلاً في الأسواق؟ على أي حال، فمجرد انتقالنا بالنقاش من المهام الاعتيادية إلى مناطق الأداء الحكومي الفريدة، كمجالات مراقبة الاتصالات والتراخيص الأمنية، ستبرز حتماً تساؤلات فلسفية أكثر تعقيداً تتعلق بالدور الملائم للحكومة في حياة المجتمع.
خلال العقود الثلاثة الماضية، حرص أنصار الخصخصة على وضع مفهوم "الاستعانة بمصادر خارجية" باعتبارها الفكرة الفعالة الناجعة القادرة على تحقيق غايات سياسة متنوعة: السيطرة على تضخم دخول الموظفين العموميين، وضخ المشاريع المملوكة للدولة إلى مسارات القطاع الخاص، وأخيراً حل الأزمات المالية للدولة من خلال بيع أصول عامة. وما سنركز عليه هنا هو قضية إعادة توليف "الخصخصة" بغية حل قيود القطاع العام في مجال الميزانية. تنادي الوصفة السياسية المتعارف عليها بضرورة خفض الدين العام عن طريق بيع أو تأجير (وهذا يعني "الخصخصة") للأصول المملوكة للدولة. والمبرر الذي يوضع هنا عن طريق القياس والتشبيهات الجزئية التي تفتقر إلى العموم والدقة. فالشركات الخاصة التي تواجه أزمات ديون من المتوقع أن تقوم من جانبها ببيع الأصول لتفادي الإفلاس. ويتعين في تلك الحالة أن ينسحب ذلك المفهوم على الحكومات... لكن الشركات ليست مثل الحكومات.فالشركات تنشأ وتزول بسهولة، أما الحكومات فلا تستطيع تحقيق أي من الأمرين بسهولة- هذا إذا تمكنت من القيام بذلك من الأساس.كما أن لدى الحكومات التزامات اجتماعية حتمية وملزمة إزاء توفير البضائع العامة المهمة وتقديم خدمات حكومية جيدة، وبالتالي يتعين على الحكومة أن توازن بين فكرة التخلص من الأصول وبيعها لمواجهة الفجوات الراهنة في الميزانية من جانب والتكلفة والأعباء المستقبلية حيال المسؤوليات الدائمة والحتمية.بصفة دائمة، تنطوي الخصخصة على إقامة علاقة بين الحكومة، بوصفها الوكيل عن المصالح الإجمالية للمجتمع، وبين أحد كيانات القطاع الخاص الذي تدفعه المصالح الخاصة. والقضية الحرجة التي تتعلق بعنصر تقييم فكرة "الاستعانة بمصادر خارجية" Outsourcing، تتمثل في عمل الأطراف المشتركة في العملية على تضخيم دور وشأن الدوافع الحساسة والمتزامنة.هناك حصة رئيسية من قيم الموجودات الحكومة القابلة للبيع تنحصر في البنية التحتية التي تعتبر في الوقت نفسه عناصر حيوية بالنسبة للمجتمعات الحضرية النابضة الساعية للنهوض.ثم إن الأسعار التي يدفعها المستثمر الخاص راضياً من أجل الاستحواذ والسيطرة على مثل تلك الأصول تعكس تقديراته للعوائد الجارية التي يتوقع أن يحصل عليها عن طريق الرسوم والموارد الأخرى. وكلما سمحت الحكومة للمستثمر بمزيد من الحرية في التصرف إزاء تشغيل الأصول كان المستثمر أكثر رغبة في دفع المزيد. لا يوجد ارتباط جلي بين الاحتياجات العامة الطويلة الأجل في المجتمع الحضري النابض الساعي للنهوض من جانب، واحتياجات القطاع الخاص على الأجل الأقصر من منظور العائد على الاستثمار ومستويات حماية رأس المال. ويشكل هذا التباين صلب الأمثلة المتعلقة بفشل عمليات بيع وتأجير الأصول العامة، وحالات الاخفاق أكثر انتشاراً وشيوعاً مما يتخيله المواطنون والناس.ولننظر إلى تجربة شيكاغو في سنة 2008 عبر تأجير عدادات مواقف السيارات في الشوارع لـ75 سنة في مقابل 1.157 مليار دولار. لقد اعتبر الكل أن تلك كانت صفقة تساومية ضعيفة. ولكن التقارير تشير إلى أن شيكاغو تتمتع الآن بأعلى معدلات وقوف السيارات في المواقف مقارنة بأي مدينة أخرى في الولايات المتحدة. ويسود الاعتقاد بأن المدينة أساءت معالجة عملية التأجير. كان المفتش العام في الولاية قد حدد قيمة الصفقة بأكثر من ملياري دولار. بالنسبة إلى أنصار الخصخصة، فإن الدرس المستخلص هنا تمثل في ان مسؤولي شيكاغو قد أخفقوا في المفاوضات حول تلك العملية... وهذا هو الرد المعتاد والمألوف الذي يردده دوماً أنصار الخصخصة عن كل حالات الفشل بغض النظر عن التفاصيل المحيطة بالصفقات. ومهما تراكمت أدلة عن حدوث فشل متكرر لصفقات مماثلة، فإن ذلك لا يوفر براهين كافية لإقامة حجة قوية تدعو إلى إعادة النظر في دواعي إبرام الصفقة، لذا يتم تجاهلها شأنها كغيرها من صفقات شاذة لم يحسن تنفيذها بالصورة الصحيحة.لكن ذلك التوصيف لجدال عقد شيكاغو يغفل الدرس الأكبر هنا، فقد تخلت شيكاغو، عبر تأجير عدادات مواقف السيارات، عن السيطرة على أحد أصولها البالغة الأهمية... "شوارعها"، كما أن تأجير تلك المواقف- بغض النظر عن السعر- ينتهك مفهوم المسؤولية العامة للولاية وثقة المواطنين فيها.والجانب الأسوأ في عملية الخصخصة هذه أن على شيكاغو أن تضمن أن تولد شوارعها عوائد لمصلحة شراكتها مع إحدى شركات القطاع الخاص طوال ثلاثة أجيال مقبلة. ولم تعد المدينة قادرة على تخصيص مواقف مخصصة للسيارات العابرة، ومسارات الدراجات، أو لغيرها من الأغراض. وفي ضوء التقنيات الجديدة مثل السيارات الذاتية القيادة وسيارات الأجرة التي تعمل بطلب الهواتف الذكية ليس من المحتمل أن نكون في حاجة إلى الكثير من مساحات الوقوف في نهاية هذا القرن. لكن يبدو أن شيكاغو ستظل تعوض شراكتها الاستثمارية مع شركة خاصة من أموال دافعي الضرائب في مقابل عوائد خيالية مفقودة ستجنيها من "مواقف وهمية لخدمة الأشباح".لن نخوض في محاولة للرد على التساؤلات الفلسفية الأكبر هنا حول المدى الملائم للحكومة الرشيدة، ولكن دعونا نتفق على أن الحكومات عندما تشترك في أي خصخصة لأصول عامة- ولأي سبب كان- فإن من الأهمية بمكان أن تحظى الأهداف العامة بدور حيوي كبير. ويتعين ألا تكون تلك الأهداف محل مساومة إرضاء للقطاع الخاص الساعي لجني الأرباح، وألا يكون الهدف هو التأجير في حد ذاته، كما هو الحال الآن في شيكاغو.وتظل المشكلة الأساسية في البون الشاسع والتباين بين الأطراف المعنية لأن هذا الفارق ينطوي على قدر كبير من الأهمية، لذا فإن الشروط التعاقدية تصبح جوهرية وحتمية. ويجب أن تتضمن كل عقود تأجير وبيع الأصول العامة ثلاثة بنود: حماية صريحة للخيارات العامة في وجه الظروف المتغيرة، وتحديد طرق الحفاظ على الشفافية بصورة دقيقة، واشتراط جلي لتوافر عناصر الإشراف والمساءلة. بالطبع سوف تقلص هذه الشروط من جاذبية صفقات البيع والتأجير بالنسبة إلى القطاع الخاص وترفع من تكلفة تطبيق عقود القطاع العام. وقد تحقق هذا الدرس في الآونة الأخيرة فعندما تأثرت شيكاغو بعملية بيع عدادات مواقف السيارات المتعثرة، سعت إلى فرض المزيد من إجراءات المساءلة التعاقدية على بيع مطارها المحلي. وبمجرد أن كشف النقاب عن الشروط الجديدة هبط عدد المتقدمين للمناقصة من 16 إلى 1 فقط. ومع غياب المنافسة لم تتم عملية البيع، وتلك هي النقطة المهمة. والمزيد من العوائد المحققة على المدى القصير يعني تكلفة اجتماعية أعلى في المستقبل... فليس هناك وجبات مجانية في هذا الحي!Elliott Sclar*أستاذ التخطيط الحضري في جامعة كولومبيا ومؤلف كتاب "أنت لا تحصل دائماً على ما تدفع ثمنه: اقتصادات الخصخصة"