كانت قبل ثورة يوليو أجمل أميرات مصر على الإطلاق، بل رشحوها ضمن أجمل أميرات العالم آنذاك. أحبها ملايين المصريين لتواضعها ورعايتها لأعمال الخير، لكن مأساتها الكبرى بدأت حينما دق قلبها بالحب الكبير لأحد ضباط الحرس الملكي هو الضابط نجم الدين شهاب، ووجدت الأميرة الحسناء فايزة، أو فائزة بحسب شهادة ميلادها، أن حبها لنجم الدين سيبعدها عن مشاكل وأزمات بدأت تغزو القصر الملكي.

Ad

طلاق أختها الأميرة فوزية التي كانت إمبراطورة إيران وأول وآخر امرأة مصرية تحظى بهذا اللقب، بالإضافة إلى زواج أختها الثانية فتحية من ديبلوماسي مسيحي، مما أثار الشعب المصري كله ضد القصر الذي شهد، أيضاً، غرام الملكة الأم نازلي بالسياسي المخضرم أحمد حسنين باشا بعد وفاة زوجها، وفي حياة ابنها ملك مصر والسودان فاروق الأول، الذي لم يستطع إيقاف جنون والدته التي سافرت خارج مصر.

عاشت الأميرة الجميلة فائزة على حلم الزواج من نجم الدين حتى فوجئت برفض شقيقها الملك فاروق لهذا الزواج، بل وطرد نجم الدين من الحرس الملكي ومن القصر كله. تمردت فايزة ورفضت العرسان الذين رشحهم أخوها فاروق أو أمها نازلي لتتزوج أحدهم، فجاء الرد سريعاً: حبسوها داخل القصر، ومنعوها من السهر في الملاهي. وحينما وجدت نفسها سجينة داخل القصر قررت أن تختار زوجاً على طريقتها الخاصة، زوج يصبح خاتماً في أصبعها، وفعلاً اختارت من القائمة التي عرضها عليها شقيقها الملك، اسم الأمير محمد علي رؤوف، وكان رجلاً عجوزاً يكبرها بأكثر من خمسة وعشرين عاماً.

 تم الزواج في حفلة أسطورية، وعادت الأميرة فايزة إلى حياة السهر والرفاهية والتحرر، بينما كان الشعب المصري وهو يراقب هذه التصرفات يطلق على زوجها العجوز والمغلوب على أمره لقب الأمير محمد علي خروف، فالجميع أدرك اللعبة التي تخطط لها الأميرة الفاتنة. لم يكن الزواج إلا مجرد تأشيرة للخروج والاستمتاع بمباهج الحياة بعيداً عن سيطرة الأسرة الملكية، لكن جاءت الأيام بما لم يكن في الحسبان.

فجأة قامت الثورة ليلة 23 يوليو 1952، كانت فايزة عائدة من ملهى رومانسي في الإسكندرية، وانخلع قلبها وهي تصغي إلى أخبار ثورة الضباط الذين بدأوا الانتقام من الأسرة المالكة ما بين نفي وتشريد ومحاكمات، وتشكلت لجان من كبار ضباط الثورة لجرد القصور الملكية ومصادرة أموال وممتلكات أسرة الملك.

رفضت الأميرة فايزة السفر في رحلة المنفى مع شقيقها وزوجته وأولاده، توسلت جمال سالم أن يتوسط لدى الرئيس جمال عبدالناصر ليغفر انتسابها إلى الأسرة الملكية، ويعفيها من الطرد خارج وطنها الذي تعشق كل ذرة من ترابه المقدس، قالتها فايزة وهي تجفف دموعها فوق خديها، بينما كان سالم، أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة، يقاوم النظر في عينيها اللامعتين ببريق توهن له القوى ويسيل اللعاب.

الحب المستحيل

كانت فايزة أجمل أميرات القصر، وأكثر شقيقاتها فتنة وأنوثة. امرأة مبهرة، حسناء متمكنة، أميرة مدللة، إذا تحركت من مكانها يتحرك الكون معها، وإذا تكلمت أصغى كل من يسمعها وكأن على رؤوسهم الطير. لم يكن جمالها في وجهها الطالع كالبدر في منتصف السماء، ولم تكن فتنتها في قوامها الممشوق كقوام الغزلان، ولم تكن أنوثتها في نبرات صوتها الناعم كتسابيح البلابل فوق الأغصان، وإنما كان موطن الجمال  والفتنة في عقلها الذي تجلد به الرجال فيهيمون بغرامها، وتسلب به عقول معجبيها، فيترامون تحت قدميها، نظراتها دروس مجانية في لوعة الهوى، وأحاديثها سحر يشربه الرجال فلا يقصدون غيرها، ولا يشعرون بمن سواها من النساء.

وكان جمال سالم مرشحاً لمنصب نائب رئيس الجمهورية، وكانت شعبيته طاغية، تأتي في المرتبة الثانية بعد عبدالناصر نفسه، وسيرته الوطنية ملء الأسماع، وصورته تتصدر الصفحات الأولى من الصحف. لكن الحب لا قانون له ولا عقل. شعر الضابط الذي شارك زملاءه في خلع ملك البلاد، بأنه وقع أسيراً في غرام شقيقة الملك، بعدما استطاعت الثورة بنجاح باهر أن تقضي على الأسرة الملكية المصرية، واستطاعت فايزة بمفردها أن تأسر أحد رموز الثورة، وتجند عواطفه لحمايتها، والمرأة حينما تحب تتسلم دائماً من حبيبها مقاليد الحكم وتاج العرش، حتى لو كان حبيبها هو جمال سالم.

انتشرت الإشاعات في كل مكان، ونسج الناس الحكايات الكاذبة حول وقائع الغرام الملكي- الجمهوري بين «فايزة» و{جمال»، قالوا إن الضابط الثائر يسهر كل ليلة مع الأميرة فايزة في فيلتها، ويظلان حتى الصباح يلعبان معاً القمار. تلقف بعض خطباء المساجد هذه الحكايات فهاجموا أبطالها وإن لم يذكروا الأسماء، لكن التقارير وصلت إلى عبد الناصر وفيها تفاصيل الحقيقة والإشاعات معاً، وشعر عبدالناصر بأن القصة أصبحت تشكل خطراً على نظام الحكم. استدعى صديقه ورفيق السلاح في ثورة يوليو، عاتبه لأنه يذهب إلى الأميرة فايزة بسيارة مجلس قيادة الثورة ما ساهم في سيل الإشاعات المتدفق، وقال عبدالناصر لجمال سالم:

*{أرجو ألا يقول الناس: إن الثورة قامت ليتزوج الضباط الأحرار من الأميرات!»

ورد جمال سالم:    

*{لكني أحبها بالفعل يا أفندم».

هنا أدرك الزعيم أن المشكلة لن تحل بالعناد، فالحب يقود الرجال أحياناً إلى التضحية بالتاج والسلطان والنفوذ، المحبون يشعرون دائماً أن الحب هو أقوى عرش فوق ظهر الأرض، صمت عبد الناصر برهة وهو يخطط لمعالجة الأمر بغاية الحكمة ثم قال لجمال سالم:

«إذاً خد إحدى سياراتي غير المعروفة واذهب بها عندما تريد مقابلتها».

شرب جمال سالم الطعم، اطمأن لعبدالناصر، بدأ يحكي له أدق تفصيلات علاقته بالأمير فايزة، وكان عبدالناصر يحسن الإصغاء ويبدي بعض الآراء في كل ما يرويه سالم عن فايزة؛ الأميرة الحسناء، وذات ليلة وبينما شعر سالم أن الرئيس في أحسن حالاته فاتحه في أمر الزواج من الأمير فايزة، وفوراً ابتسم الرئيس قائلا له في تلقائية:

«وماله... بس يا ريت نخلي الموضوع ده بعد كام شهر كده، لغاية ما نمهد له».

غمرت الفرحة جمال سالم، عانق الرئيس بحرارة، ظل يعد ساعات الليل ونجومه حتى أشرق نور الصباح، ثم ذهب إلى الأميرة فلم يجدها في فيللتها. بحث عنها في كل مكان حتى أضناه البحث، وفي المساء سأل عن عبدالناصر فعلم أنه مريض. أخبروه، أيضاً، أن الأطباء نصحوه بالراحة، وأن الرئيس تناول حبة مهدئة ونام. وفي اليوم التالي قابل عبدالناصر، سأله في دهشة عن سر اختفاء فايزة... رد عليه الرئيس بوجه متجهم: {تم ترحيلها من مصر على ما أعلم، مجلس قيادة الثورة هو صاحب القرار}.

امتقع وجه سالم، لم يشأ إكمال الحوار، غلت في عروقه الدماء، لكن عبدالناصر قطع عليه صمته، وقال له: «يا جمال... نحن لا نريد لك أن تغرق ونغرق معك».

انتقام أميرة

أسرعت لجان جرد القصور الملكية إلى قصر الأميرة فائزة في الجزيرة لتكتشف مفاجأة جديدة بعد رحيلها، علب المجوهرات جميعها فارغة والخزائن خاوية، وأرصدة البنوك خالية، ولم تجد الصحف المصرية غير اتهام أحد أعضاء السلك الديبلوماسي التركي بمساعدة الأميرة على تهريب مجوهراتها وأموالها في حقائبه الديبلوماسية. لم يكن في مصر من يجرؤ على اتهام جمال سالم، ولو همساً. عاشت الأميرة السابقة في تركيا سنوات قليلة إشتاقت فيها يوماً بعد يوم، لحظة بعد لحظة، إلى أرض الوطن. كانت تسمع اسم مصر فتبكي، وتظل مهمومة تجتر أجمل ذكريات العمر.

لكنها منذ أيام وصولها الأولى إلى تركيا والصحف المصرية لا ترحمها، تنتقدها بعنف، تبالغ في تصرفاتها غير المسؤولة وتنشر أخباراً معظمها من إشاعات الليل وسهرات المجون. قالت الصحف إنها تعيش في قصر منيف وتتمتع بأموال الشعب التي سرقتها، فيما كانت فايزة تسكن منزلاً متواضعاً في تركيا تملكه إحدى قريبات زوجها. قالت الصحف أيضاً إنها حصلت على الطلاق من محمد علي رؤوف لتتفرغ لعلاقاتها الغرامية المشبوهة.

كانت فايزة غير مطلقة آنذاك، بل على العكس ازدادت علاقتها قوة بزوجها بعدما اكتشفت أن زوجها العجوز كنز من طيبة القلب، وقمة العطف حينما حاول أن يساعد زوجته على ألا تفقد الإحساس بحياة الرفاهية،  بل ما زالت أميرة على الأقل في عينيه. وإذا كانت للأميرة السابقة فايزة أخطاء، كان للصحافة المصرية أيضاً أخطاء وأخطاء. استباحت سيرة الأميرة، ونهشت عرضها، وأهدرت دماءها، وهي تنشر كل ما يستفز بسطاء المصريين من أخبار المجوهرات التي تتحلى بها فايزة أمام عدسات المصورين العالميين، وأخبار الفساتين التي أصبحت تصاميمها حديث أميرات العالم، وأخبار المال الذي تنفقه على عشاقها، وأخبار غرامها بقنصل البرازيل الذي اعتادت الجلوس إلى جواره في الملاهي الليلية وخدها يلامس خده.

لم تستطع الأميرة الدفاع عن نفسها أو الرد على الافتراءات التي تروج لها الصحف في مصر، فتقرر الثورة بيع ملابس الأميرة فايزة التي تركتها في مصر في المزاد العلني، وتقرر أيضاً تقديمها للمحاكمة. ولم يكن سبق في تاريخ مصر أن مثلت أميرة أمام محكمة الجنح لتواجه اتهاماً بالحبس، لكن هذا ما حدث مع الأميرة فايزة حينما حدد صلاح الدين بسيوني، وكيل نيابة قصر النيل، موعداً لمحاكمة فايزة في السادس والعشرين من سبتمبر 1957 أمام محكمة قصر النيل، لاتهامها بتهريب أموالها ومجوهراتها إلى الخارج من دون الرجوع إلى الجهات المختصة.

 وبعد جلسات عدة تصدر المحكمة برئاسة القاضي عبداللطيف المراغي حكماً بحبس الأميرة السابقة فايزة شهراً مع الشغل وتغريمها 21 ألف جنيه أسترليني، وإعلامها بالحكم في تركيا بالطرق الديبلوماسية. ضاع آخر أمل للأميرة في الرجوع إلى مصر، سيلقون القبض عليها فور وصولها باعتبارها ضمن قائمة الترقب السوداء لتنفيذ حكم قضائي بحبسها.

ضاقت فايزة بحياتها في إسطنبول، خصوصاً بعدما أصبح زوجها يقيم في مكان آخر بعيداً عنها، لذلك قررت السفر إلى باريس، لكن فجأة يعرض عليها كبار المخرجين الأميركيين والمخرج التركي سام غولدوين العمل في التمثيل السينمائي، بل وتقرأ بعناية سيناريو أول فيلم تترشح له، فتجد أن دورها في الفيلم دور خادمة في بيت أمير شرقي، يحبها الأمير ويعرض الزواج منها، لكنها تهرب منه لتتزوج من خادم تحبه.

كان الموقف أكبر من قدرتها على الاحتمال، أعادت فايزة السيناريو، وكادت تبكي، لترفض بإصرار فكرة التمثيل السينمائي، وسافرت إلى باريس حيث وجدت عرضاً آخر في انتظارها، لكنه عرض من نوع جديد، رشحها محل «جان دييس» للعمل عارضة أزياء، ردت فايزة أنها لا ترفض العمل كعارضة أزياء، ولكنها لا تقبله في الوقت الحالي، متعللة بأن الأمر يحتاج إلى وقت للتفكير.

وبعد سنوات طويلة من الانفصال يتم طلاق الأميرة فايزة من محمد علي رؤوف عام 1962، فتعيش بمفردها في شقة في إحدي ضواحي باريس، وراحت الصحف الفرنسية تتحدث عن ماضيها وشهرتها منذ نعومة أظفارها وحتى قبيل الثورة المصرية، حينما كانت تشترط على دار «كريستيان ديور» أن تصمم لها ملابسها بشكل يقتصر عليها وحدها دون نساء الدنيا.

بائعة زهور

توالت المصائب على الأميرة، ومن باريس إلى الولايات المتحدة الأميركية طارت فايزة لتعيش مع أمها الملكة نازلي وشقيقتها الأميرة فتحية بعدما ساءت أحوالهما، ونشبت خلافات في جدار الحب السميك الذي تحتمي خلفه فتحية وزوجها. وفي أميركا، لم تجد غير الحياة وحيدة، تنزف كل ليلة جراح الماضي الطويل فوق خديها، دموعاً لا تحتملها نساء العالمين، يقتلها الفراغ نهاراً، وينغص شريط الذكريات حياتها ليلاً، فتلجأت إلى محل زهور، للعمل بائعة زهور وهي الأميرة التي كانت ملء أسماع العالم وأبصاره.

تتلاحق الأحداث بعد موت الملكة الأم السابقة نازلي، وتتزوج فايزة مليونيراً أميركياً، تتوكأ على ثراه ما تبقى لها من عمر وتدور الأيام، يحفر الزمن تجاعيده فوق الوجه الذي كان لا يقاوم، القوام الممشوق أصابه الهزال، والعينان الجميلتان ارتسم حولهما السواد، أما الجسد الفاتن فقد أصابه السرطان. أكل المرض الخبيث وشرب فوق مائدة هذا الجسد الملكي، انتزع جماله، حوله إلى هيكل متحرك من العظام، وأمام الجلسات الكثيرة التي اضطرت إليها فايزة وهي تعالج بالأشعة تساقط الشعر الجميل، انزوت عن الناس كي لا يرى أحد دموعها، أصبح رأس الأميرة أشبه برأس الرجال المحبوسين خلف أسوار السجن، تحولت فايزة إلى بقايا أميرة.

 الغريب أن المرأة التي عاشت أغرب حياة تحياها امرأة في العالم، وتحولت من أميرة يشار إليها بالبنان إلى بائعة زهور مجهولة ومغمورة في إحدى الولايات الأميركية، تقرر قبل أن تموت بيومين شراء مدفن لها في مقابر لوس أنجليس الشهيرة، حيث يرقد نجوم العالم. يبدو أنها أرادت أن تعوض الأيام والسنوات كافة التي فقدت فيها لقب الأميرة، لتكون النهاية في تلك المقابر التي ترقد فوق ثراها أجساد المشاهير، وفي مقدمهم الممثلة المعروفة مارلين مونرو والنجمة السينمائية ناتالي وود.

ويوم 4 يوليو 1994، ماتت فايزة، ولم يشهد جنازتها غير بنات شقيقتها، رحلت فايزة، لكنها ستظل لغزاً كبيراً تحار العقول في فهمه.