تأبى رائحة البارود والدخان المتطاير أن تغادرنا كلما أتى ذكر غزة وفلسطين، وتأبى روح المقاومة والدفاع عن الحق أن تغادرنا كلما أتى ذكر محمود درويش، في حين تهل الذكرى السادسة لرحيله هذه الأيام تأتي غزة في المقدمة بعدها تأتي المراثي والذكريات.

Ad

كتب محمود درويش عن غزة في مثل هذه الظروف قبل أربع سنوات من رحيله:

ليست غزة أجمل المدن..

ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية

وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض

وليست غزة أغنى المدن.

وليست أرقى المدن وليست أکبر المدن، ولکنها تعادل تاريخ أمة، لأنها أشد قبحاً في عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة، لأنها أشدنا قدرة على تعکير مزاج العدو وراحته، لأنها کابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها کذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأکثرنا جدارة بالحب.

نزيف مستمر

تمر الذكرى السادسة لرحيل الشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش وسط احتباس الأنفاس واعتصار القلوب ألماً لما يحدث في غزة، واختلطت مراثي الشعراء والأدباء على الشهداء وعلى ذكرى رحيل درويش، فقال الشاعر شعبان يوسف إنه مع حلول الذكرى السادسة لرحيل الشاعر الكبير محمود درويش ازدادت الأزمة الفلسطينية شراسة، خصوصا بعدما تحول العالم إلى مجموعات وتكتلات وتقسيمات مختلفة نابعة من المصالح الشخصية الخاصة، فمحمود درويش منذ الستينيات وهو يصرخ أمام هذا العالم ليس لإنقاذ فلسطين فقط بل لشحذ همم الثوار والمقاومين، مطالباً إياهم بالتوحد خلف هدفهم النبيل حتى جاءت ومرت نكسة 1967 والحرب الأهلية في لبنان ثم حدثت الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية مع بقاء التشريد والسحل والقتل للعرب، لكنه لم ييأس أبداً.

يقول يوسف: «كان لمحمود درويش جملة شعرية عبقرية تلخص الوضع الحالي: «لن تفهموني لأن لغاتكم مفهومة. إن الوضوح جريمة وغموض موتاكم هو الحق. لا تتحرك الأحجار إلا حين لا يتحرك الأحياء فالتفوا على أسطورتي»، مؤكداً أن درويش كان يقاتل لأجل قضيته السياسية من خلال الشعر والأدب لدرجة أنه في بداياته كتب:

قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت

إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت

وإن لم يفهم البسطاء معانيها

فأولى أن نذريها ونخلد نحن للصمت

فقصائد الراحل كانت تضئ الطريق وكانت بمثابة الضوء إلى المقاومة والوجه الإنساني واستطاع أن يجعل من فلسطين قضية إنسانية أكثر منها محلية أو عربية، فأشعاره تخلد هذه الأزمة التي لم يتغير فيها شيء حتى الآن بعد رحيله بست سنوات لكنها زادت سوءً دون شعراء أو أدباء أو كتاب في قامة درويش.

ويرى الناقد الأدبي الدكتور عبدالمنعم تليمة أن العالم العربي تغير بعض الشيء بعد رحيل درويش بفضل أعماله والتي نتجت منها ثورة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة بأسرها والتي أصبحت تعج بالأحداث المتتالية والمتسارعة، مؤكداً أن القضية الفلسطينية دخلت في مراحل أخيرة من الحل، وهذه المراحل فيها تضحيات جسيمة وصعبة ولكنها مفروضة وواجبة يقوم بها شعبنا العربي الفلسطيني في الضفة وغزة بالذات.

يقول تليمة: «روح شاعرنا الكبير ترفرف حولنا ككل عظماء القضية الفلسطينية، فقد ترك لنا ميراثاً عظيماً نهتدي به ونتجه من خلاله إلى تحقيق الآمال التي عاش لأجلها رائداً للإبداع الأدبي والحضاري، مخلصاً للقضية إخلاصاً كاملاً. ولن تنعم روحه بالهدوء والسكينة إلا عند تحرير الأراضي العربية كاملة».

«الوضع الفلسطيني الذي حاول محمود درويش علاجه أصبح أسوأ بكثير من أثر فقده ورحيله»، بهذه الكلمات بدأ الشاعر كريم عبدالسلام كلامه، مؤكداً أن درويش كتب كثيراً عن الشتات الفلسطيني كما قال في قصيدته «الآن في المنفى»:

فأفرح بأقصى ما استطعت من الهدوء

لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك

من فرط الزحام وأجلك.

ويرى عبدالسلام أن «هذا الموت الطائش الذي تحدث عنه درويش أصبح موتاً مبصراً مستهدفاً الوجود والوطن والإنسان الفلسطيني ولكن المأساة الحقيقية أن الموت أصبح صناعة يديرها بعض الفلسطينيين بحرفية شديدة تجاه بعضهم الآخر، يتاجر بها على حساب القضية المركزية وعلى حساب المواطن البريء وعلى حساب حلم العودة. أما الدم الفلسطيني فقد أصبح في بورصة التجارة التي يديرها أباطرة «حماس» ومنبطحو رام الله، مشيراً إلى أن الفلسطينيين بلا محمود درويش أو أي مبدع أو مستنير في قامته أصبحوا سلعة تدار من الدوحة أو من تركيا، فالدم الذي بكاه الراحل العظيم مسفوح الآن على الطرقات بفعل فاعل فلسطيني وإسرائيلي على وجه سواء».

يوضح عبدالسلام أن العابرين الذين كان يخاطبهم درويش لحماية الحلم الآن أصبحوا كابوساً مقيماً وأصبحت فلسطين عابرة في ذاكرة العالم وفي ذاكرة أمتها، متذكراً ما كتبه شاعرنا:

أيها المارون بين الكلمات العابرة

احملوا أسماءكم وانصرفوا

واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا

وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا

إنكم لن تعرفوا

كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء.

هذه الكلمات الحالمة الصامدة المقاومة لا موقع لها الآن، يقول كريم عبدالسلام، «فما يفعله بعض الفلسطينيين من تعزيز الانقسام وقتل بعضهم البعض وتحويل الحلم الفسلطيني إلى أوهام مثل الوطن البديل أو جعل الصراع فلسطيني- فلسطيني وإهدار الدم وعدم الوعي بالقضية ببعديها القطبي والعربي تسبب في تعقيد المشهد العربي وزادت الأمور وحشية وهو ما كان يحذر منه الراحل مراراً وتكراراً، خاتماً كلامه بأن الحلم الدرويشي أصبح عصياً، رومانتيكياً الآن.

الروائي إبراهيم عبدالمجيد ينعي الشاعر الكبير بعد ست سنوات من رحيله وفراقه متذكراً لقاءاتهما سواء في بيروت أو في باريس حيث كانت تربطهما علاقة وثيقة منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، فقد نشر درويش رواية كاملة له في جريدة «الكرمل» التي أسسها الراحل وكانت الرواية أول عمل يتم نشره كاملاً لكاتب مصري في هذه الجريدة البيروتية.

يقول عبدالمجيد: «درويش أحد أنبغ الشعراء العرب الذين أسهموا واهتموا وحملوا على عاتقهم هموم أوطانهم، بالإضافة إلى أنه أحد أهم مجددي الشعر العربي وطور كثيراً في شكله»، مشيراً إلى أنه كان دائماً يرفض تصنيفه كفلسطيني لكنه كان يفضل أن يصنف طبقاً لكونه شاعراً عربياً. وأكد أن اسمه سيظل خالداً في ذاكرة هذه الأمة بعدما ترك بصمة كبيرة وفراغاً هائلاً، والعظماء الكبار يصعب تعويضهم بسرعة وسهولة.