إحدى الظواهر التي أذكرها من وقت الطفولة في الأعياد في مصر هي أولئك الأطفال الذين يرتدون زي الضباط، كانت هذه ملابس العيد، يسير الطفل مزهواً بنفسه وينظر الأهل إلى طفلهم الصغير، وهم يحلمون بمستقبله ببذلة الضابط الحقيقية، وعلى مر السنين تراجعت هذه الظاهرة، بل اختفت تقريباً.
وفي السنوات الأخيرة خاصة عندما تمكن "الإخوان" وبعض عملائهم من دق إسفين بين قطاعات من الشعب وجيشه، بدا أن الجيش خسر كثيراً من حضوره في نفوس شعبه، وبدا كأن هناك جفوة مرشحة للاتساع والعمق يوماً بعد يوم، وكان سعي "الإخوان" حثيثاً في هذا الاتجاه، عادت إلى ذاكرتي تلك الصورة التي غابت عندما رأيتها تولد من جديد وأنا أقف في طابور الاستفتاء لأدلي بصوتي الأسبوع الماضي، أحد أسباب ونتائج ما شهدته مصر من ثورة وبدء انطلاق هو عودة تلك العلاقة الحقيقية بين الشعب وجيشه، لهذا لم أستغرب أن يأتي البعض، رجالاً أو نساء، وهم يصحبون معه أطفالهم مرتدين زي الضباط (مرة أخرى)، بدا اليوم لهم وكأنه يوم عيد، شاهدت كيف وقف الطفل الصغير وهو يقف على أطراف أصابعه ليلفت نظر الضابط إليه فينحني الأخير ليصل إليه ويدور حوار باسم بينهما لم أسمعه، ولكنه تحدث عن نفسه، ولم ينافس الفنان أحمد السقا الذي كان في اللجنة للإدلاء بصوته سوى الجنود الذين في اللجنة لحمايتها، كثيرون حرصوا على التقاط الصور مع السقا، كما حرصوا على التقاطها مع أولئك الجنود والضباط، ووقف ضابط اليوم وضابط الغد وهما يبتسمان للمستقبل من خلال عدسات الكاميرات، عادت صورة الشعب وجيشه إلى حالتها الصحيحة.يكتسب هذا الدستور أهمية كبيرة في حسم أمور مصر والمصريين وبدء صفحة جديدة في مسيرة المستقبل مهما كانت الملاحظات عليه، ولأنهم في "الإخوان" وعملائهم يدركون ذلك فإنهم قاتلوا بشراسة من أجل الحيلولة دون نجاح الاستفتاء، لأن نجاحه سوف يسقط عنهم ورقة التوت الأخيرة التي يدّعونها تحت مسمى الشرعية، وإذا كانوا يتحدثون عن الصندوق وشرعيته فها هو الصندوق يطيح بما يدعون ويخلق شرعية جديدة كاسحة غير قابلة للتشكيك. يحلو للبعض هذه الأيام اعتبار التصويت على الدستور هو تصويت على الرغبة في دفع الفريق السيسي للترشح، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكنني أعتبره يتخطى ذلك إلى أنه إعلان بإغلاق ملف الادعاءات الإخوانية بالشرعية إلى الأبد، وإعلان بدء انطلاقة جديدة لمصر في اتجاه تأسيس الدولة المدنية الحقيقية التي ينبغي أن تنشغل في البداية، وفي الأساس، بهموم مواطنيها وتوفير الحياة الكريمة لهم، هذا استفتاء على الحياة في مواجهة القتل، كانوا يتحدثون عن شرعية الصندوق، ها هو صندوق جديد أكثر صدقاً وشفافية وحسماً يختار لمصر مستقبلها.عندما كنت أناقش من أناقش من الإنكليز، سواء في مجال الإعلام أو السياسيين في لندن وقت "الإخوان" لاحظت ملاحظة مهمة، قبل تمرير دستور "الإخوان" كانوا يستمعون لما أطرح ويناقشون ويبدون قدراً من التفهم، أما بعد تمرير الدستور فكان ردهم يتمحور حول حقيقة أنه أصبح لمصر دستور وافقت عليه أغلبية، وعندما كنت أحاول المجادلة بحجم عيوبه وكيفية تمريره كان الرد "لكنه الدستور الذي وافقت عليه الأغلبية، وعليكم أن تتعاملوا معه، فقد أصبح الوثيقة الأساسية، وعلى الجميع احترامه"... هذا الموقف يفسر لماذا يقاتل "الإخوان" وعملاؤهم من أجل إفشال الدستور.لقد أثبت المصريون أنهم شعب يمتلك حساسية مفرطة تجاه مستقبله ورغبة في الحياة المستقرة، وأنه يدرك جيداً كيف يدير بوصلته في الاتجاه الصحيح عندما يجد الجد، وأنه قرر الانحياز إلى المستقبل وآماله، لهذا احتشدت الجموع أمام لجان الاستفتاء على الدستور لتعلن رأيها بوضوح وتقول "نعم"، لا للدستور فحسب، بل للمستقبل الآمن.الجدير بالانتباه في يوم الاستفتاء أن المرأة المصرية خرجت بإصرار حقيقي فاجأ الجميع، حضور المرأة كان رسالة عالية الصوت من أجل الإعلان عن الرغبة في الاستقرار، عائلات كثيرة دفعت ثمناً غالياً خلال السنوات الأخيرة، ومؤشر الأسرة هو نساؤها، لقد تعب المصريون من هذه الحالة الشديدة الاضطراب، بات الملايين من المصريين في حاجة إلى الأمل في المستقبل، لم يدرك هذه الحاجة قطاع من الشباب بغيابه عن الاستفتاء، وهذه ظاهرة يجب التوقف أمامها، لم يدرك هؤلاء بعد أهمية الاستقرار في المجتمعات، ويبدو أن الحوار معهم لم يكن من منطلقات تخاطب عقولهم، فلم يتجاوبوا بالحضور، ولم يصوتوا بالرفض، فكان الغياب النسبي إذا ما قورن ببقية فئات المجتمع.
أخر كلام
إعادة رسم صورة مصر
18-01-2014