توطدت علاقتي بالمنتج والسيناريست ممدوح الليثي (1 ديسمبر 1937 - 1 يناير 2014 ) طوال عقد ونصف عقد ترأس خلالها مجلس إدارة الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، التي كنت عضواً لمجلس إدارتها، وأميناً عاماً لها، وطوال تلك الفترة عرفته عن قرب، ورأيت إلماماً كبيراً من جانبه بعلم الإدارة، وقدرة هائلة على الإمساك ببراعة بكل الخيوط في يديه، حتى لو نظر البعض إلى هذا بوصفه نوعاً من «الدكتاتورية». وفوق هذا كله نظافة يد، وطهارة ذمة، ورغبة جارفة في الابتعاد عن الشبهات التي توقعه تحت طائلة المسؤولية القانونية، والأخلاقية.

Ad

كنت كلما أقابله أبداً اللقاء، أو أنهيه، بأن أدعوه إلى أن يكتب مذكراته؛ إذ كنت أراه أقرب إلى «الصندوق الأسود»، الذي يحوي الكثير من الخفايا والأسرار التي ستقلب الدنيا رأساً على عقب، في حال كشف عنها، وأماط اللثام عن خباياها. لكنه كان يضحك، ويُطالبني بأن أغض الطرف عن هذا الطلب، ووقتها كنت أحترم رغبته لكنني لا أدري إن كان اختار قرار الامتناع عن كتابة مذكراته بملء إرادته أم نزولاً على رغبة شخصية بعينها، أو بناء على اتفاق غير مكتوب بينه وجهة ما، في إطار صفقة لا أعرفها!

طوال تلك الفترة كان حريصاً على إبقاء نفسه واسمه بعيداً عن الشبهات، وعندما حاول أحدهم اتهامه بأنه يستغل منصبه كرئيس للجمعية الراعية والمنظمة لمهرجان الإسكندرية السينمائي، في استضافه زوجته السيدة الفاضلة ونجله الإعلامي المعروف عمرو الليثي، على نفقة المهرجان، لم يتردد في إظهار المستندات التي تؤكد قيامه بتحمل كلفة إقامتهما على نفقته الخاصة، ومع كل جلسة ختامية للمهرجان كان يُعلن على الملأ امتناعه عن تقاضي أي مكافأة نظير عمله في المهرجان، الذي كان يُجند جهاز السينما الذي يترأسه لإنجاح فعالياته، بدءاً من استثمار شبكة علاقاته الواسعة بالنجوم والفنانين لإقناعهم بحضور حفلتي افتتاح المهرجان، واختتامه، وانتهاء بتوصيل الدعوات إلى مقار إقامتهم، وإليه وحده يعود الفضل في تخصيص موازنة سنوية للمهرجان، بعدما نجح في استغلال علاقته الوثيقة بالسيد يوسف بطرس غالي، وزير المالية في حكومة أحمد نظيف، وانتزع منه قراراً بتحديد مبلغ مليون و700 ألف جنيه من موازنة الدولة لدعم وتمويل تظاهرات وأنشطة مهرجان الإسكندرية السينمائي.

لمست في ممدوح الليثي قدرته الكبيرة على الالتزام بالمواعيد التي يقطعها على نفسه، ورغم تعدد المناصب التي كان يشغلها، وحالته الصحية التي كانت تتدهور أحياناً، فإنه لم يخلف اجتماعاً كان مدعواً لحضوره، باستثناء اضطراره أحياناً إلى تأخير موعد الاجتماع لحضور مراسم عزاء أو المشاركة في حفلة عُرس؛ إذ كان مُجاملاً  بدرجة كبيرة، و»صاحب واجب» يستوي في هذا إن كان يُقدم هذا الواجب لوزير أو غفير، وهي مناسبة للإشارة إلى شخصيته التي جمعت بين صرامة القيادة، والكرم عبر يديه البيضاوين التي كفكفت دموع الكثيرين من الفقراء والمحرومين.

أخطأ البعض عندما أشاع أن الليثي كان حريصاً على التشبث بالمناصب الرفيعة التي تقلدها؛ فالصحيح أن المناصب هي التي كانت تسعى إليه؛ نظراً إلى خبراته الكبيرة التي اكتسبها مذ تخليه بإرادته عن عمله كضابط بالشرطة، واشتغاله بالصحافة في الفترة التي شهدت ظهور ميوله الفنية، واتجاهه إلى دراسة السيناريو في معهد السينما، ثم تقلده الكثير من المناصب القيادية في وزارة الإعلام المصرية آخرها رئيس قطاع الإنتاج في اتحاد الإذاعة والتلفزيون، ورئيس جهاز السينما في الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي؛ حيث كان له فضل إنتاج باقة من الأفلام رفيعة المستوى مثل: «أنت عمري، حب البنات، لعبة الحب، فيلم هندي، إسكندرية نيويورك، معالي الوزير، شقة مصر الجديدة، ملك وكتابة، واحد صفر». وعندما تظاهر ضده  عمال وموظفو الجهاز، في أعقاب ثورة 25 يناير، لم يتردد في تقديم استقالته، بعدما أدرك أنهم الخاسرون، وأن مسيرة الرجل الذي كتب سيناريو وحوار أفلام اعتبرها النقاد روائع السينما العربية مثل: «ميرامار، ثرثرة فوق النيل، السكرية، الكرنك، المذنبون»، واختير فيلمان منهما هما «الكرنك» و»ثرثرة فوق النيل» ضمن قائمة أفضل مئة فيلم عربي، وأنتج ما يقرب من 164 فيلماً درامياً تلفزيونياً، وحوالى 600 فيلم تسجيلي، وما يزيد على 1500 ساعة دراما في شكل «مسلسلات وسهرات». كذلك اختير نقيباً للمهن السينمائية، ورئيساً لاتحاد النقابات الفنية، ومنحته الدولة جائزتها التقديرية  في الفنون عام 1992... مسيرة لن تتوقف بفعل تظاهرات غاضبة تقودها مجموعة من السذج والمُغرر بهم، وهو ما دعاه إلى أن يبتسم في وجوههم، ولم يتردد في إعطاء الأوامر لسائقه الخاص بأن يعود بالسيارة إلى منزله، وصبيحة اليوم التالي قدم استقالته، وتفرغ لوضع اللمسات الأخيرة على مسلسل «صديق العمر»، الذي يرصد النهاية التراجيدية لعلاقة الصداقة التي جمعت الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر!