في بداية «ديوان الحج» للشاعر الكرديّ دلشاد عبدالله، ترجمة بكر درويش، يطرح الشاعر مسألة المواضيع الشعريّة، فيرى أنّ: «المواضيع بأجمعها يمكن أن تكون أرضيّة خصبة أو وسائل تعبيريّة جدّ مهمّة للأصالة الشعريّة، فمن وريقة على قارعة الطريق، على سبيل المثال لا الحصر، إلى دماء الشهداء... وأن كلّ ما شاع تناوله شعراً صار عصيّاً على الإعادة إلاّ على أيدي شعراء مبدعين. وهنا يُطرَح السؤال حول إذا كان الشعر هو ماذا نقول؟ أو كيف نقول؟
يبالغ الكثيرون من شعراء الحداثة في طرح الحداثة الشعريّة مشروعاً شاملاً وكاملاً لتغيير العالم، ونقله إلى المكان الأبهى، حيث المعاني الفاضلة التي تؤسّس لإنسان جديد... غير أنّ هذا الطرح فضفاض، وقد يحمّل الشعر أحياناً ما ليس يحمله، فالقصيدة التي لا تحمل همّ الجمال أوّلاً تولد ميتة. أمّا من حيث الفكرة فليس في الشعر فكرة أمَة وفكرة حرّة. وليس الشعر مسؤولاً عن إيجاد الحلول، إنّما هو يجعلنا نعالج أبواب الحياة الصعبة بفرح ومتعة، ولا يضع في يدنا إلاّ مفتاحاً سحريّاً واحداً اسمه: الجمال.وممّا لا شكّ فيه أنّ الـ{ماذا» هي بمتناول الجميع، وكما يقول الجاحظ: إنّ المعاني مطروحة في الطرقات. غير أنّ الـ»كيف» ليست تستجيب بحضورها إلاّ للمبدعين فحسب. ينتبه الشاعر الكرديّ دلشاد عبدالله في في بداية «ديوان الحج» إلى دائرة الخطر التي يمرّ بها الشعر حين يجاذب مواضيع فكريّة صعبة أو شائكة، فقد يتحوّل عن الجمال إلى النشاط العقلي فيخسر ماهيّته وكينونته: «دائماً ما يتملّكني شعور بالخوف من أنني قد أبتعد عن تلك الشعريّة الواقعة ضمن إطار الفكر». وقد كبّر الشاعر حجره حين أعلن أنّ الناس سئموا تكرار المواضيع، ويأتي مشروع الحداثة ساعياً: «إلى إزاحة كلّ البنى القديمة، فضلاً عن سعيه إلى التخلّص من تكرار تلك الموضوعات العامّة التي تمّ تناولها على مدى العصور السحيقة، باختصار، ينقّب المشروع، ليكتشف ما لم يكتشف من المناطق التي لم يصلها الفكر بعد». إنّ هذا الكلام يحتمل الكثير من الأخذ والردّ، لأنّ مواضيع كثيرة قد تموت بحكم موت الظروف التي تنجبها، والزمن الذي يصلح لاحتضانها، غير أنّ مواضيع كثيرة أيضًا هي ذات خصوبة وجوديّة، لا يعرفها الموت، ولا يستطيع الإنسان تجنّب السباحة في مائها الشهيّ، ما يعني أنّ القصيدة لا يمكن أن تقفل أبوابها في وجه هذه المواضيع. أمّا نظريّة النسف المطلق والعامّ فهي أيضًا قابلة للنقاش، لأنّ النسف ضرورة في مكان وجريمة في مكان آخر، ومن الماضي ما يصلح للحاضر وللغد مع التعديل الذي تقتضيه الحياة، ومن المؤسف ألاّ يعترف شعراء الحداثة بأنّ الحداثة الشعريّة كانت موجودة منذ أن كان الشعر وأنّ من الشعراء، منذ أن كانت القصيدة، من كان ذا عيني نورس فيحلّق في الأعلى ويرى الأبعد... صحيح أنّ تحرير الشعر من التبعيّة السياسيّة، على سبيل المثال، وكما يقول عبدالله، أمر يرضي الإبداع الشعريّ ويخلّص الجملة الشعريّة من أسر قاتل، لكنّ التجديد على مستوى المعاني والمواضيع ليس إبداعًا إنّما الإبداع هو بكيفيّة القول التي وحدها تقدر على منح الكلام نَسَبَه الصحيح إلى الشعريّة.إناء حبيستهلّ عبدالله بوحَه بالعشق «الحج، الطواف الأكبر للعشّاق»، فيحوّل الطبيعة إناء حبّ، حيث للعشّاق حجر تدور حولَهُ أطياف الليل الصحراويّ، لينحني الرجل الطويل رغبة في قليل من الماء وتصل رائحة النعناع إلى صدور النجوم، ما يدعو الطيور إلى بناء أعشاش الرحمة في قلوب الصيّادين فتنجو من بنادقهم: «سلام على حجر./ حجر لفّ حوله أطياف ليلة صحراويّة طويلة/ إنّها عباءة حرير على منكب رجل طويل القامة،/ ينحني لرشفة ماء تمسّ إحدى زواياها الأرض،/ ينبت في مكانها النعناع،/ تصل رائحها إلى النجوم، وبها تعرفها الطيور، تبني أعشاشها أمام أنظار الصيّادين»... وإلى أنثاه يمضي عبدالله ويسألها عن العطر الذي احتضنها ونَثَرها في ساحة العشّاق حيث الطواف يخطف أهل الحبّ إلى فراديسهم: «زجاجة أيّ عطر خبّأتك في داخلها، وها قد نثَرَكِ هنا؟»، ويكشف عن مأساته الانتمائيّة، فهو راعٍ متواضع لبعض الماعز، وصديق لنسر عاشق نشأ في ظلال يديه: «كنتُ أربّي بين الجبال والوديان عدداً من الماعز وصقراً عاشقاً.../ هناك كانت حياتي أحلى وأجمل من الوطن بألف مرّة». يُظهر هذا الكلام ألم الانتماء الوجودي، والحنين إلى الحريّة التي أطلقت الإنسان في الطبيعة، وأطلقتها فيها، بعيداً من الأسر الذي يجسّده الوطن بانتمائه المنظّم والممنهج والمادّي... عبدالله، على امتداد قصائده يلوذ بالطبيعة، ويعتنق أشياءها ويحاول أن يلقي القبض عليها بشبكة الرمز ليمنحها قدرة أكبر على الإيحاء...ويكثر عبدالله من الأسماء في نصّه الشعري، أسماء الأعلام وأسماء الأماكن، ولا شكّ في أنّه مشدود إلى أسمائه بروابط وجدانيّة قويّة، في حين أنّ القارئ يتعذّر عليه الانفعال الشعري عندما لا يكون هو على علاقة مع هذه الأسماء وعلى غير معرفة بظلالها إضافة إلى أنّ عبدالله يحترف الرمزيّة التي تصير إلى رمزيّة مغلقة في كثير من المواضع: «لقد تلّقَت أشعاره بـ»خندكي بايي.../ ليزيّنوا له بيتًا من بقايا «توتنة وان».../ أنا و»كوماسي» إلى الفردوس»...وحين يقتصد عبدالله بمجازه الصعب، المحتمل التأويل بامتياز، تبدو العبارة ذات رحيق عاطفيّ دافئ، يعلو إلى شرفة خيال قليلة الضباب. كما في نصّ «الطاحونة»، حيث القمح ليس سوى دمعة امرأة في البدايات الأولى، عندما سبقَ الإنسان الأرض في الحزن وتسلّق أبراج الكآبة: «من بين أشجار الصبار تدور رحى طاحونة/ ليس لي خبرة تذكر بالطحن،/ وأنواع القمح وأفكار الطحّان الليلية،/ كلّ ما أعرفه أنّ القمح أوّل الأمر/ كان عبارة عن دمعة،/ زرعها رجل في قلب امرأة/ ومنذ ذلك الحين/ وهي تصنع منها خبزًا/ يشبع بها ليالي الجوع»...ذات الحياةوفي نصّ «أكسير»، يقف عبدالله حائراً بين ذاته وذات الحياة، فالقلب يسعى إلى الحياة ويتسلّقها على سُلّم من خفقانه، وقد يصل إلى إكسيرها، غير أنّه يتعذّر عليه الرجوع إلى ذاته بعد ذلك فيمضي شريداً شهيد وردة السعادة المسجونة في عمرها القصير، وهل للسعادة من معنى وثمن لولا عمرها القصير؟!: «ترى هل هو شراب مصنوع من شراب العفاريت،/ أم من وردة بنفسجيّة برّيّة؟!/ التي هي وردة السعادة/ هذه الوردة عمرها قصير./ قدره صارم ذلك القلب/ يكتشف إكسير الحياة ويضيع نفسه».ويأتي نص «دلشاد عبدالله» كبطاقة هويّة وجوديّة للشاعر. وفيه يمجّد العزلة، وهو السفينة التي بابُها حيث تصل اليد، وبمعنى آخر هو سفينة بلا أبواب ليست بضاعتها سوى النّور وحده: «غرفتي سفينة فوق ظهر عزلتي/ تندفع من مرفأ الأنوار إلى سائر الأماكن المظلمة/ حيثما تريد فتحها هي بابها.../ لقد سالت رائحة الوهم،/ إنّها رائحتي وقد اختلطت بالأمتعة»... وإذا كان لا بدّ من الاختيار بين الهزائم والانتصارات، فعبدالله يتبنّى هزائمه ويتبرّأ من انتصاراته، طمعاً بالوصول إلى جيل تلده النار من أعماقه: «في المشهد الأخير/ إنّي طائر حزين فوق أسلاك المساء/ مسخرة هي صدى ألحاني.../ النار أكملت تسعة أشهر في داخلي/ ستولد جيلاً جديدًا»...«ديوان الحج» للشاعر الكرديّ دلشاد عبدالله يقدّم نموذجاً للشعر الكردي الحديث الذي يلتقي مع الحداثة الشعريّة بشكل عامّ بكلّ ما فيها من أضواء وظلال قد تنجح في تشكيل المشهد مرّة، وتخفق مرّة أخرى.
توابل
دلشاد عبدالله في «ديوان الحج»... أحد نماذج الحداثة بما لها وما عليها
24-08-2014