لقد تحولت الحرب الأهلية في سورية إلى مشكلة معقدة إلى حد بائس، ففي حين كانت الأطراف المختلفة تستعد للاجتماع في جنيف في إطار الجولة الثانية من محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، كانت الحكومة تشن هجمات شرسة بالبراميل المتفجرة على حلب وغيرها من المدن؛ وكانت جماعات المتمردين الإسلاميين الأكثر اعتدالاً، بما في ذلك الجيش السوري الحر، منهمكة في حرب مفتوحة مع جماعات تابعة لتنظيم "القاعدة"؛ والآن تتقاتل الجماعات المرتبطة بـ"القاعدة" فيما بينها.

Ad

ومن ناحية أخرى، تتفاقم الآثار غير المباشرة للحرب سوءاً، وتسبب الاقتتال في تصاعد حِدة عدم الاستقرار في المنطقة؛ ويتدفق مواطنون أميركيون وأوروبيون على سورية للمشاركة في الجهاد؛ وهناك إجماع متعاظم على أن حدود ما بعد الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط بدأت تتهاوى. والواقع أن قدرة سورية على البقاء، وهي الدولة المتعددة الأعراق، أصبحت مهددة بفعل انتشار الجماعات المسلحة العديدة التي تدعمها جهات خارجية- إيران والمملكة العربية السعودية وقطر وروسيا والولايات المتحدة وتركيا وفرنسا والعديد من الجهات المانحة الخاصة- والتي تحركها أهداف متضاربة.

وهناك ثلاث طرق لتبسيط المعادلة وتعظيم فرص تمكين الأطراف المشاركة في مؤتمر جنيف الثاني من التوصل إلى اتفاق حول ما هو أكثر من مجرد الرغبة في عقد مؤتمر جنيف الثالث ذات يوم.

فأولاً، تتلخص المساهمة الأكثر أهمية التي قد يقدمها هذا المؤتمر لاحتمالات التوصل إلى تسوية تفاوضية وانتقال سياسي في سورية في تغيير الحوافز التي تحرك الأطراف الرئيسة. ففي الفترة التي سبقت مؤتمر جنيف الثاني، سعى كل طرف إلى تعزيز موقفه على طاولة المفاوضات من خلال قتل أكبر عدد ممكن من الخصوم والاستيلاء على، أو استعادة، أكبر مساحة ممكنة من الأرض، وتتمثل مهمة وسطاء السلام الآن بوقف هذه الديناميكية من خلال الاتفاق على معايير المشاركة في الانتخابات التي قد تعقد في نهاية المطاف، بصرف النظر عمّا إذا كان الرئيس بشار الأسد سوف يظل في السلطة حتى ذلك الحين.

ولابد أن تشمل هذه المعايير استعداد الأطراف للسماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى كل المدنيين السوريين الخاضعين لسيطرتها ووضع حد لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الاستهداف المنظم للعاملين في المجال الطبي، وتجويع السكان تحت الحصار، وإعدام أسرى الحرب، وهنا يتعين على الأمم المتحدة أن تؤكد مبدأ "المسؤولية عن الحماية"، ليس كمبرر للتدخل العسكري بل كمبدأ أساسي متفق عليه من كل البلدان: التزام الحكومات بحماية مواطنيها. وإذا لم يكن "حزب البعث" التابع للأسد قادراً على تحمل هذه المسؤولية، فإنه يفقد بذلك شرعيته كمشارك في أي حكومة مقبلة.

وثانياً، يتعين على المجتمع الدولي أن يعيد ترسيخ أسس المشاركة. فعندما بدأ الصراع السوري، كان شأناً داخلياً، وكان تدخل الأمم المتحدة مقتصراً على القضايا الإنسانية واللاجئين، ولكن الصراع امتد الآن عبر الشرق الأوسط، فتسبب في زعزعة الاستقرار في لبنان والأردن وبات يهدد بتمزيق العراق. ومجلس الأمن الدولي مسؤول عن التصدي لأي انتهاك أو تهديد للسلام الدولي، وهو المعيار الذي تحقق الآن وبوضوح.

وبوصفها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن فإن روسيا ملزمة بالتحرك؛ ولم يعد بوسعها (هي أو الصين) أن تختبئ خلف حجة مفادها أن الأمم المتحدة لا ينبغي لها أن تتدخل في الشؤون الداخلية لسورية. وفي وقت تعمل الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي على وضع روسيا بشكل مباشر على المسرح الدولي، يتعين على الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الدائمة العضوية في مجلس الأمن أن تخطط لسلسلة من القرارات التي تضع الكرملين في مواجهة خيار الوفاء بمسؤوليته أو استخدام نفوذه من أجل إنهاء الصراع. وأخيراً، تتلخص الخطوة الأكثر أهمية التي يستطيع الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يتخذها في وضع التهديد الحقيقي باستخدام القوة مرة أخرى على الطاولة، فعلى مدى ثلاث سنوات من الصراع المتزايد الدموية، لم يتحقق النجاح الدبلوماسي الوحيد إلا عندما تصور الأسد أنه أصبح في مواجهة الضربات الصاروخية الأميركية، وانتبه فجأة إلى استحباب التخلص من أسلحته الكيميائية.

ولكن أغلب الخبراء يعتقدون أن القوة العسكرية اختيار مستبعد، فقد رفض الرأي العام الأميركي بشكل حاد خطط أوباما الرامية إلى توجيه ضربات صاروخية لمعاقبة الأسد بسبب استخدامه المتكرر للأسلحة الكيميائية، ويشير استطلاع أخير أجرته "مؤسسة بيو" أن أغلبية الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة "لابد أن تنشغل بشؤونها على المستوى الدولي وأن تترك البلدان الأخرى تتدبر شؤونها بنفسها". بيد أن وظيفة أوباما تتلخص رغم ذلك في النظر إلى ما هو أبعد من استطلاعات الرأي، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحماية الأمن القومي، فقد انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان والعراق، ولكن المكاسب التي تحققت بشق الأنفس بدأت تتراجع الآن. والآن عاد تنظيم "القاعدة" الذي يقاتل من أجل بناء دولته الأولى في غرب العراق وشرق سورية، والتي ستكون أقرب كثيراً إلى أوروبا والولايات المتحدة من كهوف أفغانستان.

ولعل أوباما يتصور أنه هو أو خليفته قادر على التعامل مع هذا التهديد في المستقبل. وإذا بدأت عناصر تنظيم "القاعدة" بتهديد الولايات المتحدة من الدولة الإسلامية في العراق وسورية، فإن الولايات المتحدة سوف تقضي عليهم بالطائرات بدون طيار، كما فعلت في أفغانستان وباكستان واليمن. ولكن إذا كان على استعداد للتفكير في استخدام القوة ضد تنظيم "القاعدة" من دون تفويض دولي في المستقبل، فما الذي يمنعه الآن من استخدام الطائرات بدون طيار لتعزيز المعارضة السورية المعتدلة وإرغام الأسد على الدخول في مفاوضات جادة؟

كان التهديد بشن ضربات بصواريخ كروز في سبتمبر الماضي كافياً لدفع أعضاء تنظيم "القاعدة" في سورية إلى الفرار إلى التلال، والضربة المصممة لتدمير قوات الأسد الجوية ومنعه من إسقاط قنابل محشوة بالمسامير على أبناء شعبه من شأنها أن ترغمه على تركيز ذهنه على الحل الدبلوماسي.

يتعين على أوباما أن يعلن أن الولايات المتحدة ملتزمة بإيجاد حل سياسي في سورية، وأن حكومته سوف تبذل كل ما بوسعها من أجل تحقيق مثل هذا الحل من خلال مؤتمر السلام في الأسبوع المقبل ومتابعات أعمال المؤتمر، ولكن إذا لم يتحقق وقف إطلاق النار في الأشهر الثلاثة المقبلة فإن الولايات المتحدة لابد أن تعمل بالتعاون مع المنظمات الإقليمية وكل أصدقاء الشعب السوري على استصدار تفويض بشن مجموعة من الضربات العسكرية ضد كل القوى المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، وعلى آلة القتل التي توجهها حكومة الأسد ضد المدنيين.

ويتعين على إدارة أوباما أن تقدم الحجة الكفيلة بإقناع الشعب الأميركي بأهمية هذا التحرك لتحقيق المصالح الأمنية المباشرة للولايات المتحدة. وفي كل الأحوال، إذا فشل مؤتمر جنيف الثاني، فإن مؤتمر جنيف الثالث لن يدور حول سورية وحدها، بل حول كيفية إنهاء الحرب المستعرة في الشرق الأوسط بأسره.

* آن ماري سلوتر | Anne-Marie Slaughter ، رئيسة "مؤسسة أميركا الجديدة" ومديرتها التنفيذية، ومؤلفة كتاب "الفكرة التي هي أميركا: الحفاظ على إيماننا بقيمنا في عالم خطر".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»