تعد «ما بعد الحداثة» حركة شاملة تضرب في البدهيات والمسلمات الفكرية، وقد أسفرت عن عدم يقين كلي، ورغبة في صياغة نظريات جديدة أكثر قدرة على قراءة نص العالم المعقد.
لقد كانت أعلى الأصوات عن «موت الحداثة» صادرة عن المعماريين الجدد، ولعل طرح فكرتهم يمكن أن يوضح ببساطة نمط تفكيرهم، ويعطي لفتة أساسية عن مفهوم ما بعد الحداثة. فهناك «إفلاس الصروح المعمارية التي تشبه كتلا منحوتة، ونقداً لطابع النخبة وادعاءات تحويل المكان وسيلة لتحويل العالم، وتدمير نسيج المدينة بإفراز متكاثر لصناديق زجاجية ونتوءات عالية قطعت صلتها بسياقها المباشر، وحولته إلى مكان عمومي هابط المكانة، أي نقداً لنظرية العمل الفني الحداثي المتعالي على الواقع والمفارق له»، فالمجتمعات الغربية تحيا داخل ثقافة ما بعد الحداثة ابتداء من العمارة التي تغوص الآن في الأشكال المتنافرة للأمكنة التجارية والموتيلات والوجبات السريعة، وفي ألعاب الإيماء والأصداء الشكلية التاريخية التي تكفل القرابة بين هذه المباني والأيقونات التجارية المحيطة بها.فمع اتساع المدينة الحديثة، وتشابه أنماط البناء: أعمدة خراسانية، وجدران زجاجية، وصغر المساحات، وندرة الزخارف والمنحوتات، وبساطة الأثاث، والاعتناء بالأجهزة والتقنيات في البناء والحياة، لم تعد العين تدرك جماليات البناء المزخرف القديم، فكانت الثورة على الحداثة وأشكالها الفنية المختلفة، ومن ثم بدأت التساؤلات عن جدوى الاعتناء بالشكل، وجعله غاية فنية، في الفنون والآداب بشكل عام.مبادئ أساسية وهناك ستة مبادئ أساسية تدعو لها حركة ما بعد الحداثة:أولها: تحطيم سلطة الأنساق الفكرية القاهرة للأنساق الفكرية الكبرى المغلقة، التي تتخذ شكل الإيديولوجيات، لأنها تقدم تفسيرات كلية للعالم، وتهمل حقيقة التنوع الإنساني. وأن المؤلف لا يمتلك التفسير النهائي للعمل، بل كل عمل قابل للتأويل، وأن المؤلف قد مات (أي انتهى دوره عند كتابة النص ويقع العبء بعد ذلك على القارئ، وتعني أيضا زوال السلطة الفكرية للمؤلف). فيجب أن يقدم المؤلف نصا منفتحا (غير منغلق) خاليا من الأحكام القاطعة، والنتائج النهائية. ثانيها: السعي إلى إلغاء التقابل بين الذات والموضوع، فهو من موروثات الحداثة، فلم تعد الذات تمتلك فلسفة شاملة، ولا يقينا كاملا، وهذا يفتح المجال لقبول سائر الأفكار والطروحات والنظريات ما دام النص يقبلها. وإن كان هناك خلافات حول مفهوم الذات نفسه وماهيته، وحدود فعل الذات في الحياة.ثالثها: إن دراسة التاريخ مهمة فقط في إلقاء الضوء على الحاضر، فيجدر تقليل الاهتمام بالدراسات التاريخية والاعتماد عليها في تفسير العالم، فالتاريخ بالنسبة لهؤلاء مجال للأساطير والإيديولوجيات والتحيز، وهو اختراع من الأمم الغربية الحديثة لقمع شعوب العالم الثالث، وأبناء الحضارات غير الغربية، على أساس أن التاريخ الغربي محوري، مركزي في النهضة، وتقف على هامشه سائر الحضارات والأمم. وتغير تبعا لذلك مفهوم الزمن فلم يعد الزمن خطا تراتبيا، بل فيه الكثير من عدم الاتصال والفوضى، فالزمن الحقيقي - كما يقول عالم الطبيعة ستفين هوكنج - ليس سوى صورة من صنع خيالاتنا. وأيضا لم تعد الجغرافيا وحدودها ثابتة، فقد تخطتها الاتصالات الحديثة، وتلاقح الأفكار والثقافات.رابعها: رفض احتكار الحقيقة، وأن تتحكم نظرية في علم أو مجتمع، فمن المهم تقليص حجم النظريات وأثرها المفترض، واستبدال حركة الحياة اليومية وديناميات التفاعل في المجتمعات المحلية بها؛ لأن النظريات تغيّب الفروق النوعية ولا تعتني بالتعدديات الثقافية والاجتماعية والسياسية.خامسها: رفض التمثيل (الإنابة في الانتخابات) ورفض التشابه والمحاكاة في الفنون، فكل فرد مختلف عن الآخر، ولا يمكن مشابهته أو التعبير عنه بشكل نهائي كما يتخيل البعض.سادسها: الاهتمام بمنهجية التفكيك ودور التأويل الحدسي ودور القيم في البحث العلمي، ونسبية المفاهيم والطروحات.فلم تجد ما بعد الحداثة حرجا في تسويغ الطابع السلعي للفنون، لأنها رفضت «صنمية الحداثة»، وقبلت التطابق مع الحياة اليومية ذات الطابع السلعي في مبادلاتها، والغوص في الحياة بكل ابتذالاتها، إنها تحطم الانفصال الحداثي بين الجمالي واليومي، بين المؤلف وعمله، بين الفن وجمهوره. المنظور الأدبي ومن المنظور الأدبي، فهي، بداية، بمثابة إعادة نظر أو تقديم تعريف آخر للحداثة ومراجعة لها، واستكشاف جديد لقضايا وإمكانات طرحها بعض أدباء الحداثة الأوائل وقد جاء في مواجهة مزيج من القلق والاغتراب، وسعي إلى تقبل طاقات الثقافة الجماهيرية العامة قبولا إيجابيا، وجماليات فن السوقة والأحداث والنظم العشوائي للشعر، وأفرزت حساسية ثقافية شاملة جديدة، لتدرك الجمال في آلة أو في حل مسألة رياضية، وأيضا: فيها نزعة بدائية نحو البساطة في حمى التقنيات، والتطلع إلى ما وراء الذكورة العنصرية وما بعد النزعة البطولية.وتطور الاتجاه أكثر مع جهود إيهاب حسن ليشمل: تجميع القطع والإطار والمنظور والنقيض والمكان والنص والنص الظاهري، واستفاد من طروحات ديريدا (في التفكيك)، ويعدد إيهاب حسن عددا من سمات ما بعد الحداثة ومنها: العبث، الفوضى، التفكيك والهدم والتحليل، الغياب، التفريق، الاستطراد والاسترسال، وعدم التسليم بتفسير واحد أو ما يسمى: «ضد التفسير/ سوء القراءة»، سرد روائي مضاد، الأسلوب الشخصي، تعدد الأشكال، انفصام الشخصية، السخرية، اللاحسم، الذاتية وأيضا: فقدان اليقين المنطقي والوجودي، والمطالبة بعالم جديد شجاع خال من طغيان المجموع، والترحيب بالتعددية أو ما يسميه الانتشار، ورفض العزلة، وهي: خصم عنيد للرؤية الإجمالية، والسعي إلى تحقيق وحدة عالمية، وإنشاء كون إنساني واحد، وتحقيق أهداف سياسية مشتركة تتوافق مع فئات اجتماعية وهيئات متباينة.لقد جاءت ما بعد الحداثة كثورة ضد الأشكال المعتمدة المسيطرة للحداثة العليا التي اجتاحت الفنون، فقد شعر جيل الستينيات من القرن الماضي في الغرب وأميركا أن الحداثيين الكبار باتوا أصناما خانقة ومميتة، يجب تدميرها، لإنتاج أعمال جديدة. وأيضا محو الفواصل والحدود بشكل عام، فلا تمييز بين الثقافة العليا والثقافة الجماهيرية (الشعبية). فالنزعات الحداثية التي تسعى وراء الشكل الخالص والتمرد الخالص هي نزعات بالغة الضيق والتزمت والاختزال للروح الحديث، ولابد من الانفتاح على التنوع والغنى المتعدد للأشياء على المواد والأفكار التي يولدها العالم الحديث.والسبب في الضيق الشديد أن «الإنتاج الثقافي احتبس داخل أسوار العقل، فلم يعد يتطلع مباشرة إلى العالم الحقيقي باحثا عن الدلالة، لكنه أصبح كأنه في كهف أفلاطون يحاول التقاط تصوره العقلي للعالم من خلال أسواره».وبناء عليه فقد بات الإنسان - ذاتا وجسدا - في تيه أمام الجغرافيا والأمكنة، فلم يعد الجسد قادرا على تحديد موقعه عندما يكون في مبان عملاقة، ولا قادرا على معرفة العالم الخارجي بالنسبة إليه، ومن هنا، فقد ضعفت الذات، وتلاشى عنفوانها أمام الثورة المعرفية والاتصالية الهائلة، وأصبح الإنسان محتجزا بين ثنايا معطياتها كموضوع فردي.
توابل
ما بعد الحداثة... مراحل فكرية ومنظور أدبي
03-01-2014