يبدو أننا آخر الأجيال التي تحتفظ في بيوتها بمكتبات للكتب، وأنها من بعدنا لن تجد لها رفاً في أي بيت، فزمنها قارب وشارف على الانتهاء، فكل المعطيات والعلامات تُشير إلى ذلك الأفول الحزين الذي سيطالها أينما كانت، ليس في منازلنا فقط، بل في كل مكان تحتله مكتبة، سواء كانت عامة أو خاصة، وأصبح وجودها غير مرغوب فيه ولا مخطط له في المنازل الحديثة، فمع ازدياد النشر الإلكتروني، وتصدر الكتاب الإلكتروني لمواقع المبيعات التي تُنزل في كبسة زر على أجهزة الآيباد الآلف منها، بدون الحاجة إلى رفوف تزحم بها بيوت أو شقق صغر حجمها وضاقت بمن فيها، ولم يعد في زحمة هرولة وانضغاط الزمن من يملك فائض الوقت ليدللها ويمسح طبقات غبار النسيان من فوق أغلفتها.

Ad

أكتب هذا الكلام وأنا أشعر بالحزن لمكتبتي، فمن لها من بعدي؟

من سيحبها ويدللها ويعتني بها ويدرك قيمتها وتاريخها معي؟

أنا وهي كائنان لا ينفصلان، عمر مشترك تقاسمنا تفاصيله وكل ذكرياته، حملت ملامحي ولمسات يدي وأنفاسي وأحاسيسي كلها، خربشاتي على هوامشها، نبضات فكري في زمن قراءتها، وحملت تضادات نضوج فكري وازدياد وعيي الإبداعي على صفحاتها التي حملت بكل صمت مراحل تغيراتي التي تتضارب على صفحاتها لتبين لي وحدي اختلافاتي من زمن إلى آخر، فأشعر بالسعادة بأنني مازلت أنمو تحت كشافها الخالد، وأنني بت أكثر جدارة باستحقاقها.

وهي الصديقة والرفيقة الملتصقة بي بكل صدق ومحبة منذ طفولتي وإلى الآن، لم نفترق في أي مرحلة كانت، صاحبتني بإخلاص برفقة العمر كله، ولم يكن لي أي صديق عمر صداقته معي كانت أطول منها، هي المبتدأ وهي المنتهى، رفيقة الفرح والحزن والسفر، والأكثر قربا في أوقات الوحدة، فهي وحدها القادرة على اختراقها وكسر طوقها، لم تفرقنا الظروف ولا الكوارث، ففي الحرب كان كل همي ينصب على طريقة إنقاذها وخوفي من سرقتها أو تدميرها، وهو التعبير الأصح فما كان المعتدي مهتما بها، لكن قلقي اختلق لها هذا الخوف الذي جعلني أتذكر تاريخ كل كتاب متفرد بها، وكيف أتيت به، ومن أي بلد اشتريته، وكم كانت فرحتي به عظيمة ومقدار سعادتي واستمتاعي، فهي في الواقع ليست كتباً بل علاقة حب دافئة ومتكافئة لأخذ وعطاء، فبقدر ما أحببتها أعطتني، ولا أستطيع أن أحصر وأحدد ما أعطتني، فهي كانت كريمة بحق، فأغدقت علي بكرمها كله، علم ومعرفة وإبداع وثقافة وصحبة عميقة ممتعة.

مكتبتي هذي من لها من بعدي؟

الكائن المحبوب والمعشوق والمفضل الذي تفرد له حجرات العقل والقلب ليستقر فيها، ولا تفرط به، ولا بمحبته، ولا بصحبته التي تغنيك عن الدنيا ومن فيها، كيف سيكون حاله حين يغيب عنه عاشقه ومحبوبه؟

حين يصبح وحيدا مهملا مغمورا ومدفونا بطبقات الغبار، وليس هناك من يعتني به، ولا من يدرك أهميته وقيمته وتاريخه مع من أحبه وصاحبه، وأنه بات غير مرغوب فيه ولا بوجوده في أي زاوية في المنزل، كي لا يجلب العثة والغبار في زمن باتت فيه حياة الكتاب الورقي عبئا على من يحتويها، وباتت في زمن ليس لها مكان فيه، وكل من تؤول إليه ملكيتها سيجفل منها ويستثقلها ويحاول أن يتخلص من عبئها في أقرب مزبلة للتاريخ.

وهذه ليست مشكلتي بل هي مشكلة كل عشاق الكتب، وستلحقنا عاجلا أو آجلا المكتبات العامة كلها، فستخلو من طلابها ومريديها مع توفر كل ما تقدمه لهم أجهزتهم الإلكترونية التي لا يتجاوز حجمها حجم الكف، وتضم في قلبها العالم كله، فمن يريد بعد ذلك الذهاب لمكتبات والجلوس ساعات لقراءة مادة فيها؟

حتما وفي وقت قريب ستغلق معظمها توفيرا لمصاريف تدفع لموظفين لا يجدون ما يعملونه فيها ولا من يرتادها.

نحن مقبلون على زمن لن يكون فيه مكان لعزة ومجد المكتبات سواء كانت منزلية أو عامة، وسيتخلص الناس منها لأن الزمن ذاته قد أنهى صلاحيتها، ومهما تباكينا عليها فلن تنقذها رومانسيتنا الحزينة، ولا أدري حقيقة ما المصير الذي ينتظرها بكل ما حملته أغلفتها وورقها من تلامس وأحاسيس وأنفاس وخرابيش من كان يوما حبيبها وعاشق حروفها وملمس ورقها؟