كتابة الحب على الجدران
غنَّت فيروز «بكتب اسمك يا حبيبي عالحور العتيق بتكتب اسمي يا حبيبي على رمل الطريق»، أغنية حاضرة في الوجدان وتتسم بمشهدية ريفية عن زمن الحب الرومانسي. وكتابة أسماء العشاق ظاهرة لا بد من التأمل فيها، هي جزء من ذاكرتنا وربما جزء من كابوس أيامنا.
أسماء كثيرة تحملها المقاعد في المدارس والجامعات والمنتزهات الجبلية والحدائق، أو تزيِّن جذوع الأشجار وأعمدة الإنارة والمصاطب، هي لعبة من ألعاب المراهقة تنضج في زمن الشباب، ويمر بها كل شاب أو فتاة، يرسمان قلبين مع السهم ويكتبان الحرفين الأولين من الاسمين، ثم ينظران إلى القلبين والسهم كأنهما قناع الحب الأبدي. هي معزوفة للحب الأول، معزوفة الخطوة الباكورة من الجنون في الحب.اسم الحبيبة قناع يضعه سائقون لبنانيون كثر على شاحناتهم، فربما يزيح عنها بعضاً من ضخامتها المخيفة ويخفف عنهم تعب قيادة مشحونة بالتعب. يطلق السائق على مركبته اسم حبيبته ويكتب لها الأشعار المألوفة المستلة من التراث العربي، فصاحب “الأميرة دموع” يتغزل بها وكأنها حبيبته الافتراضية.
الشاحنات نفسها تمر في نفق طريق المطار، حيث تجد من يلجأ إلى خربشات غرامية على جدران ضاع لونها بعبارات طائفية إلى جانب كلمات الغزل المستهلكة على شاكلة “بحبك موت انت يا سودة”، وقلوب هنا وهناك. وقد راجت قبل سنوات خربشات دونها الثنائي الولهان فادي ومنيرة على كثير من جدران بيروت حتى تحولا إلى قصة قصيرة مثيرة للفضول، يسأل الجميع عنها.للجسد أيضاً نصيب كبير في رحلة الحب، فغالباً يشِم شباب كثر أجسادهم بأسماء الحبيبات، ويجودون في صناعة الوهم لأنفسهم، باعتبار أن الحب سيبقى في القلب راسخاً مثل احتلال الوشم للذراع أو العنق أو الصدر... ولكن عند أول منعطف، حين يدب الخلاف بين الحبيبين يتحوَّل الوشم كابوساً يصارعه الحبيب بشتى الطرق ويزيله نافضاً عن جسده غبار حبيبة سابقة، تماماً كما الإهداء الذي يكتبه الشاعر (العربي) لحبيبته على صفحة ديوانه الأولى وحين يختلف معها يصبح همّه حرق الديوان بما فيه من أشعار... علماً أن شعراء كثراً كتبوا (ويكتبون) إهداءات للحبيبات على بعض القصائد، وسرعان ما أزالوها قبل طباعة الكتاب.غرافيتي المشاعر ويرتدي الغرافيتي حلة جميلة حيناً وقبيحة أحياناً في قصص الحب ويفعل فعله في تدوينها على الجدران. خطَّ أحد الفنانين رسماً مميزاً لفتاة ترتدي ثياباً سوداء وحذاء رياضياً وتتقيأ قلوب حب، مشهد سريالي بامتياز يختلف عن الصورة المعروفة عن أن الحب هو الحياة كلها.أما الرسام السوري تمام عزام فاستعمل غرافيتي الحب لغرض آخر وهو الحديث عن الثورة السورية، فقد اشتهرت له لوحة غرافيتية أطلق عليها اسم “غرافيتي الحرية”، جمعت بين الحب والمطر على جدار اخترقته رصاصات كثيرة، فأصبحت رمزاً قوياً للدمار الحاصل في سورية.تمام عزام، ركَّب اللوحة الشهيرة للرسام «غوستاف كليمت»، والمعروفة بـThe Kiss على صورة لحائط غير معروف في سورية، تدمَّر للأسف جراء القنابل والرصاص.كذلك عكفت مجموعة من الرسامين على توجيه رسالة جمال وحب إلى الجدران في شوارع العاصمة اليمنية صنعاء. وكان بعض شوارع المدينة شهد معارك ضارية خلال الاحتجاجات المناهضة للرئيس السابق علي عبد الله صالح وما زالت الجدران في تلك المناطق تحمل آثار الأعيرة النارية وعلامات الدمار.أمام هذا الواقع، يرى الفنان مراد سبيع أن الوقت حان لاستخدام تلك الجدران في توجيه رسالة سلام ومحبة بلمسة جمال. وقال صاحب مبادرة الرسم على جدران الشوارع في صنعاء: «أطلقت هذه الفكرة وأتمنى من الجميع أن ينزل إلى الشارع... إلى المناطق التي تضررت... إلى المناطق التي تحتاج إلينا، هي صماء ولا تعبر عن شيء... أن نحدث فيها تغييراً ونجعلها تتكلم على الأقل. إن لم نستغل هذه الفترة كي ينزل الشباب إلى الشارع ويعبروا ويتكلموا بالرسم فمتى يتكلمون».وتحضر جدران الفيسبوك بقوة اليوم، كما في المناسبات والأحداث كافة. جدران يمارس عليها العشاق والأزواج كل ما يحملونه من حب افتراضي تجاه بعضهم البعض، فيكتبون الأشعار والتمنيات وينشرون الصور، يجعلون من الفيسبوك شماعة يعلقون عليها مشاعرهم في هذا اليوم (أو غيره) وما يتبعها أو ينتج منها من عناق وقبلات، وكأن هذه الصفحات الجماعية متنفسهم الوحيد... يفيض الحب من صفحة أحد العشاق حتى تخال أنه لم يتبادل أرقام الخلوي مع حبيبته. ثم تنظر فتراهما في المقهى ذاته وعلى الطاولة نفسها وكل واحد منهما ناصباً حاسوبه أمامه يتابع آخر اﻷخبار والمستجدات الفيسبوكية.في لبنان المتخبِّط راهناً بين السيارات المفخخة وبين تشكيل الحكومة، ناهيك بالنعرات المذهبية التي لا تنفك تصول وتجول في عقول كثيرين، يحضر الحب في بعض القلوب ليستحيل جدراناً صامتة في قلوب كثيرة.