توصلنا إلى صفقة... بعد إخفاقات عدة، توصل المفاوضون في جنيف إلى اتفاق تاريخي سيضع قيوداً على برنامج إيران النووي مقابل تخفيف بعض العقوبات المفروضة على هذا البلد.

Ad

لا تزال التفاصيل غير واضحة. ولكن إليكم أسس هذا الاتفاق: ستوقف إيران عملية تخصيب اليورانيوم إلى نسب أعلى من 5 في المئة (تعمل محطات الطاقة النووية عادة بيورانيوم مخصب إلى نسبة 3.5 في المئة)، وتمتنع عن تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة لتخصيب اليورانيوم، وتخفف أو تحول إلى أكسيد مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى نسبة 20 في المئة (مستوى يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم بسرعة إلى نسبة 90 في المئة الضرورية لتطوير الأسلحة). بالإضافة إلى ذلك، تمتنع إيران عن تشغيل مفاعل الماء الثقيل قرب مدينة آراك، الذي يعتقد الخبراء أنه يستطيع إنتاج بلوتونيوم يمكن استعماله لتطوير الأسلحة، أو إنتاج الوقود له. وسيحظى المراقبون الدوليون أيضا بحرية أكبر لتفتيش منشآت إيران النووية.

في المقابل، ستخفف قوى العالم العقوبات المفروضة على إيران، ما يتيح لطهران الحصول على مليارات الدولارات. لكن اللافت للنظر أن هذا الاتفاق يتناول حق إيران بتخصيب اليورانيوم بغموض، علماً أن هذا الحق شكل نقطة شائكة في المحادثات. نتيجة لذلك، فسرت كل من الولايات المتحدة وإيران هذا النص على طريقتها.

صحيح أنها صفقة كبرى، إلا أن من الأفضل اعتبارها صفقة مؤقتة هشة تمنح الأطراف المعنية فترة ستة أشهر للتوصل إلى اتفاق أكثر متانة وطويل الأمد.

لكن ما يُعتبر صفقة أكبر على الأرجح وما تغاضت عنه التغطية الإعلامية لكل هذا الأخذ والرد بشأن هذا الاتفاق المؤقت يبقى الزخم الكبير الذي شهدته العلاقات الأميركية الإيرانية في الأشهر الأخيرة. فعقب تسلم الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني زمام السلطة خلال فصل الصيف، خاضت هاتان الدولتان محادثات على أعلى مستوى لها منذ الثورة الإيرانية عام 1979، أولاً مع اجتماع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ومن ثم مع الاتصال الهاتفي بين روحاني والرئيس الأميركي باراك أوباما (سبق أن تبادل هذان الرئيسان الرسائل). ونظراً إلى طريقة عمل دورة الأخبار هذه الأيام، بتنا نعتبر رؤية كيري في جنيف يحتفل بتحقيقه إنجازاً دبلوماسياً مع ظريف أمراً طبيعياً. لكن هذه الدبلوماسية المحمومة خلال فصل الخريف استثنائية بكل معنى الكلمة. فكما أشار جو سيرينسيوني من Ploughshares Fund بعد انهيار المحادثات النووية في مطلع هذا الشهر، أمضى كيري وظريف "معاً" خلال الساعات الأربع والعشرين الأخيرة وقتاً أطول مما قضياه سويا طوال السنوات الأربع والثلاثين الماضية".

لكن لا أحد يوضح هذه النقطة بفاعلية أكبر من ديفيد كريست في كتابهThe Twilight War "حرب الشفق"، الذي يؤرخ فيه إخفاق الولايات المتحدة المتكرر خلال العقود الثلاثة الماضية في التواصل مع إيران، فضلاً عن المخاطر الكبيرة التي ولّدها هذا الوضع بسبب احتمال نشوب حرب نتيجة أي سوء تفاهم. كتب كريست، مؤرخ في وزارة الدفاع الأميركية: "مع غياب الروابط الدبلوماسية وفي ظل الاجتماعات القليلة في زوايا حانات الفنادق المظلمة والاعتماد على وسطاء مشبوهين، لم يكن أي من الطرفين يملك فكرة دقيقة عن الآخر". بعبارات أخرى، كنا نخوض حرباً باردة ثانية، حرباً من دون "الهاتف الأحمر" المجازي.

بلغت "حرب الشفق" هذه الحضيض، مجازياً على الأقل، مساء أحد أيام شهر فبراير عام 1990، حين تحدث الرئيس جورج بوش الأب، الذي كان يسعى بدأب لإطلاق سراح الرهائن الأميركيين في لبنان، طوال 29 دقيقة عبر الهاتف مع رجل ظن آنذاك أنه الرئيس الإيراني هاشمي رافسنجاني. لكن بوش اكتشف لاحقاً أنه كان يتكلم مع رجل إيراني يعارض انفتاح رافسنجاني على الولايات المتحدة وأراد إحراج القائد الإيراني. إذاً، كانت خطوط التواصل بين البلدين شبه مقطوعة، حتى إن رئيس الولايات المتحدة وقع ضحية خدعة.

لكن الأمثلة لا تقف عند هذا الحد. فيحفل تاريخ هذه العلاقة بعمليات انفتاح لم تلقَ تجاوباً، لقاءات دبلوماسية متدنية المستوى لم يُكتب لها النجاح، قنوات تواصل معقدة، ووساطات مزدوجة. على سبيل المثال، بعث رونالد ريغان خلال ولايته الأولى بثلاث رسائل دونها على أوراق خاصة بالبيت الأبيض إلى الحكومة الإيرانية عبر وزراء خارجية دول أخرى في محاولة لتحسين العلاقات الثنائية. لكنه لم يتلق أي رد (لم يكن الإيرانيون واثقين من أن الرسائل حقيقية). وبعد أن أخفق المسؤولون الأميركيون (الذين انتقلوا سراً إلى طهران على متن طائرة إسرائيلية قادها رجال من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية) في عقد صفقة "الأسلحة مقابل الرهائن" عام 1986، لجأ ريغان إلى يومياته لتنفيس غضبه. كتب الرئيس: "يبدو أن باعة السجاد و"حزب الله" لا يقبلون إلا برهينتين. شكلت هذه خيبة أمل كبيرة بالنسبة إلينا جميعاً". وفي عام 1999، استاء الرئيس بيل كلينتون من محاولات انفتاح إدارته الفاشلة على الرئيس محمد خاتمي، حتى إنه راح يتجول في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد خطاب خاتمي على أمل لقاء هذا القائد الإيراني المصلح. لكن خاتمي سلك مخرجاً جانبياً.

بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، عقد المسؤولون الأميركيون والإيرانيون محادثاتهم الأولى وجهاً لوجه منذ عام 1986، مجتمعين في جنيف وباريس لمناقشة تعاونهم في الشأن الأفغاني. لكن إدراج الرئيس جورج بوش الابن إيران ضمن دول "محور الشر" عام 2002 عرقل هذه المساعي. وفي شهر مايو عام 2003، بعد أشهر قليلة من اجتياح الولايات المتحدة العراق ودق ناقوس الخطر في طهران التي اعتقدت أن إيران التالية، بعث وزير الخارجية السويسري إلى وزارة الخارجية الأميركية فاكساً من صفحتَين دونهما عدد من كبار القادة الإيرانيين (بمن فيهم القائد الأعلى آية الله علي خامنئي ووزير الخارجية الحالي ظريف)، وحددوا فيهما، وفق كريست، الأطر العامة "للمضي قدماً في معالجة كل مسألة خلاف بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة".

لكن إدارة بوش رفضت في النهاية خارطة الطريق، مع أن ريتشارد أرميتاج، أحد المسؤولين المعنيين باتخاذ القرار، أخبر كريست لاحقاً أنه كان سيأخذ هذه المذكرة على محمل الجد لو أنه علم آنذاك أن ظريف المعتدل كان له يد في وضعها (في عام 2008، مع تدهور قنوات التواصل بين البلدين، ونقل القائد الإيراني النافذ قاسم سليماني، وفق بعض التقارير، رسالة إلى ديفيد بترايوس بإرساله رسالة نصية إلى هاتف الرئيس العراقي جلال طالباني، الذي أوصلها بدوره إلى هذا الجنرال الأميركي).

تعهد باراك أوباما عند تسلمه سدة الرئاسة عام 2009 بلقاء القادة الإيرانيين مباشرة من دون شروط مسبقة، حتى إنه بعث برسالتين إلى القائد الأعلى. ولكن انتهى به المطاف إلى الاعتماد بشدة على العقوبات الخانقة والتهديد باللجوء إلى القوة. ولم تثمر جهود الإدارة الدبلوماسية المتقطعة إلا أخيراً. فقد ساءت الأحوال بين البلدين حين رفض الإيرانيون عام 2011 إنشاء خط ساخن عسكري اقترحه المسؤولون الأميركيون بغية تفادي أي صراع غير متعمد بين البلدين.

ولا شك في أن هذه الخلفية تجعل حماسة النشاط الدبلوماسي خلال الأشهر الأخيرة لافتة للنظر (أفادت وكالة الأسوشيتد برس أخيرا أن إيران والولايات المتحدة خاضتا محادثات مباشرة سرية طوال سنة قبل التوصل إلى اتفاق جنيف).

لنتأمل في ما يلي: في عام 2003، رسم جواد ظريف الخطوط العريضة لخطة تقارب مع الولايات المتحدة بمساهمته في إعداد وثيقة سُلمت إلى السفير السويسري في طهران، الذي سلمها بدوره إلى وزير الخارجية السويسري. فأرسلها هذا الأخير بالفاكس إلى وزارة الخارجية الأميركية. ثم تناقلها مسؤولو إدارة بوش لتوضع بعد ذلك في أدراج المكاتب من دون أن تُنشر.

لا شك في أننا اجتزنا طريقاً طويلاً منذ الفترة التي كان فيها انفتاح رئيس على إيران يخفق نتيجة اتصال هاتفي زائف.