خالد شداد في «ظلّ من جسد»... مفردات تغتسل بماء الحزن والحنين

نشر في 01-06-2014 | 00:01
آخر تحديث 01-06-2014 | 00:01
لا يعرف الإنسان كم بقي منه في أمّه بعدما أطلّ من رحمها على الحياة. ولا يعرف أيضاً كم يحمل منها فيه. والأمّ في محابر الشعراء، كما في قلوبهم، امرأة دائمة تعوِّض بقفير حضورها عن مرارات كثيرة تحملها النساء إلى الرجال في سلال الحبّ، حين يكون هذا الحبّ غير قادر على إقناع الأحصنة الّتي تجرّ عربة الحياة بالانطلاق. يهدي الشاعر خالد شداد جديده إلى أمّه بعد زمنٍ من رحيلها.
{إلى أمّي وهي توقظني / يشدّني الشوق إلى وجهها/ ورائحة شعرها/ المصبوغ بلون المغيب/ زمن مرّ على رحيلها/ وأنا في انتظار الصباح؟}، يكتب الشاعر خالد شداد في {ظلّ من جسد}. وأيّ صباح ينتظره الشاعر؟! إنّه يقيم في خيمة انتظار لصباح لا يأتي. فالزمن أوقفه الرحيل في محطة الظلام، لأنّ المرأة الّتي تدلّ الضوء على سرير ابنها ارتدت غيابها، وانسحبت من الدنيا على رؤوس أصابعها، وكان الصباح ظلًّا من ظلالها الكثيرة الّتي لا تعود.

 الحزن يقيم في لغة شداد على امتداد صفحات جديده، فكأنّه يلوذ بالكتابة ليسلّمها أسرار كآبته علَّها تحمل عنه بعضاً من ألم. فهو ذو حزنٍ متعدّد، وإن كانت بدايته موشومة برحيل الأم. ومن هذا الرحيل ينتقل إلى ضفّة المقهورين، من دون أن يسمّيهم، أو يدلّ عليهم بإصبع زمان أو مكان: {إلى كلّ الذين يقتات الجوع من أمعائهم والدّماء تجري من جروحهم}. إلا أنّ هؤلاء الموجوعين لا يبدون بعيدين عن جغرافيا الروح والوطن، ومنهم نساء يطلع الغناء من حناجرهنّ ممزوجاً بالقلق، إنّه غناء المتألّم الّذي لا يتّسع الدمع لألمه فيلجأ إلى تخبئته في صدور المواويل الحزينة: {لتلك النسوة/ اللّواتي اعتدن الغناء/ على أنغام القلق/ أنشودة الأمل ليوم جديد/ وإن كان بعيداً}. ولعلّ شداد يرى نفسه مستوطناً وجوه هؤلاء الصِبْية الّذين ينظرون إلى اللاشيء حيث ينتهي الزمان رماداً غير منظور، وحيث يتنازل المكان عن ذاكرتِه لتذهب بها مناقير طيور النسيان:} صبية مهرولون عبثاً/ في نزق الزمان/ شاخصة أبصارهم/ هناك/ حيث يكون الزمان تلاشى/ وتناسانا المكان}.    

 وفي أكثر من مكان يلجأ الشاعر إلى ضمير المخاطبة ويلتبس الأمر على القارئ فلا يعرف إذا كان المتكلّم مخاطِباً أمّاً أو حبيبة ... ولا سيّما حين لا يكون في السياق ما يؤشّر ولو إيحاءً. فمن هي تلك المرأة التي تتعاون والمرآة، فالمرآة تشرب اصفرار الوجه، أمّا هي فتتولّى غسل الأخطاء بماء القلب: {لكِ .../ أنتِ والمرآة سواء/ هي تغسل الشحوب عن وجهي/ وأنتِ/ بقلبكِ تغسلين أخطائي}. ويتساءل القارئ: هل المرآة تزيل ما يؤلم الوجه أم تنقله إلى فضّتها وتزيده ألماً؟! إلّا إذا كان وجود لمرآة عجيبة تستأصل الحزن والألم والإصفرار من الوجوه الطالبة شفاعتها.

ويمضي شداد، أحياناً، إلى غموضٍ قد يجده هو سخيّاً بالتعبير إلا أنه يوقف المتلّقي على ضفّة اللامعنى فلا يستطيع الانفعال لأنّ الكلام يتراكم تراكماً ضبابياً: {في يوم خالٍ من الزحام/ جاءني في أطراف النّهار/ يهديني كلمتين/ الأولى حرفٌ/ والأخرى حرفان}. فمن هو ذلك القادم؟ وما هما الكلمتان؟ ... إنّها أحجية تلْهي العقل ولا توصله إلى زبد المعنى.

ولا يفوت الشاعر أن يغمز من قناة القبيلة، ويعلن وجعاً شرفياً قديماً، ويدلّ بإصبعه على امرأة تنجو من شبكة الرؤى القديمة، وتنفض عن جسمها الصحراء لتجد نفسها أسيرة حلم رجل مرتدية امرأة من حزن في فيء قلبها المنتهي أيقونة كئيبة على باب القبيلة: رآك ذات المساء/ تزاحمين الرؤى القديمة/ وتنشقين عن تلك القبيلة/ في ذاك المساء/ رآك في منام رجل آخر/ تتساقطين حزنًا/ وتجترّين قلبك المشنوق/ بباب القبيلة}.

والحبّ عند شداد انتظار، وظلّ من ظلال الكآبة الكبيرة، فأنثاه تتركه فريسة الثواني، وهو يحدّق إلى موته الآتي. الموت الّذي سيترك له في يده: {حبّ تشرين} و}عينَي سَحَر}. وإذا كانت اللّغة تأمر مفرداتها أن احمِلي في صدورك عطر المعنى، فإن الشاعر رفع راية اليأس اللّغوي وقفز عن شرفة الكلام وسوره بحثاً عن لغة تقول ما لديها بلا منّة المفردات: {... فدع بيني وبينها حواراً/ خارج أسوار الكلام/ حتّى أقوى على الكلام {...

حاضرة في غيابها

والمرأة في {ظلّ من جسد} هي حاضرة في غيابها، وهي تقيم في الانتظار مرّة أخرى، لذلك يطاردها شداد ويراهن على وجودها حيث تكثر: {أزهار الحزن والفراشات المحترقة}، ويفتّش عنها: {في كلّ عين تسهر/ وكلّ زهرة بعد لم تذبل}، ويحاول العثور على طيفها: {في كلّ بقعة ضوء مظلمة}... فكأنّ هذه المرأة المنشودة تحلّق في الأثير خارج سجن الجسد، وكأنّها من خيالٍ وشوقٍ روحيٍّ وتَنْشُد جسداً يكون لها مأوى ولوقت لا يطول... وإن راقَ لأنثى شداد أن تتجلّى حضوراً تأتي وفي يدها سلّة جراح تبذرها في جسده الّذي افترسه النّحول قبل الجرح: {تأتين جراحاً جائعة/ تنهش جسدي النحيل}، ولا يخفي الشاعر صيامَه عن المرأة، فهو صيام قسريّ، ولن يكون الإفطار سوى اجترار الجوع لأنّ الانتظار سوف يبقى واسطة العقد المؤلمة: {وحدكِ/ تنشرين ظمأ الذاكرة/ عطشًا يلهث فوق صيامي الطويل}...

ويبدو شداد رهينة بوصلة القلب في أكثر من اتجاه، هذه البوصلة الّتي تقسو وتملي عليه الإبحار في ذاكرة يعلو فيها الشوك، ليرى وجهه: {المنحوت على الأبواب المغلقة/ حفرته مطارق النسيان}، ويعود إلى أمّه التي قتلها الحنين وهي تحت قنطرته: {لأعود لأمّي/ التي تحتضن ثيابي الجديدة/ وتشّم فيها الحنين/ الّذي اغتالها ذات حين}... ووجه الأمّ لا يمحو وجه الأب الذي زاده الموت وسامة وخشوعاً: {فلا عودة لأبي أو لا لحلواي عيد.../ كان وسيماً/ هكذا قيل لي/ عندما كنت ألبس خشوعه وهو ذاهب إلى الصلاة}.

ديوان {ظلّ في جسد} بيتٌ تسكنه مفردات تغتسل بماء الحزن والحنين، إذ إنّ شداد لم يعطِ للفرح إشارة الدّخول إلى نصوصه وقد أساءت السقطات اللّغويّة، والركاكة الأسلوبيّة، إلى جملة شداد الشّعريّة التي احتاجت أحيانًا إلى بعض الوضوح لتبدو على قدر من العفويّة، كما احتاجت أحياناً أخرى إلى صياغة أفضل لتبدو على قدر من الأناقة، والصناعة البعيدة عن التكلّف.

back to top