سقوط الديمقراطية!
لا يصح أن نقبل ادعاء أي طرف، من الأطراف المتصارعة في الساحة، تمسكه بالديمقراطية أو رفعه لشعارات المطالبة بتطبيقها، في ذات الوقت الذي تكشف فيه ممارساته على الأرض وسلوكه اليومي مجافاته التامة لمعاني الديمقراطية الرئيسية وبعده عن تطبيقها على نفسه أولا.
استولت فلسفة الديمقراطية وإشكالاتها على شطر كبير، بل لعله الشطر الأكبر، من اهتمام أستاذ الفلسفة الأميركي جون ديوي (1859 – 1952) صاحب الكتاب الشهير "كيف نفكر وكيف نحل المشاكل؟"، وقد كتب في إحدى المرات يقول: "في أي مكان تعرضت فيه الديمقراطية للسقوط، كان مرد ذلك إلى مؤثرين من خارج نطاق السياسة، وهما (1) أن الديمقراطية لم تجرِ في دماء الشعب وتمتزج بكيانه، و(2) لم يكن لها دور في سلوك حياته اليومية، واقتصرت مظاهرها على البرلمان أو الانتخابات والمعارك الدائرة بين الأحزاب. وأثبت ذلك بالقطع أنه ما لم تصبح العادات الديمقراطية في الفكر والعمل جزءاً من كيان الشعب، فإن الديمقراطية السياسية لن تكون بمأمن، لأنها لن تكون قادرة على الصمود في فراغ؛ بل يجب أن تستند إلى وجود الأساليب الديمقراطية في جميع العلاقات الاجتماعية. ولا تقل العلاقات القائمة في الأنظمة التعليمية أهمية في هذا الشأن عن العلاقات القائمة في الصناعة والأعمال الإدارية، ولعلها مكافئة لها".معنى هذا الكلام، مع إسقاطه على واقعنا السياسي المحلي، وبتبسيط شديد، أنه لا يصح أن نقبل ادعاء أي طرف، من الأطراف المتصارعة في الساحة، تمسكه بالديمقراطية أو رفعه لشعارات المطالبة بتطبيقها، في ذات الوقت الذي تكشف فيه ممارساته على الأرض وسلوكه اليومي مجافاته التامة لمعاني الديمقراطية الرئيسية وبعده عن تطبيقها على نفسه أولا.
لا يمكن لي شخصيا أن أقبل بحال من الأحوال تلك الممارسات والتصريحات التي تصدر وبشكل دائم عن كثير من الأسماء المنخرطة في الشأن السياسي، وذلك لبعدها الصارخ عن "الفكرة الديمقراطية" التي أعتنقها، وهي الفكرة القائمة على الاحترام وقبول الرأي الآخر والابتعاد عن التجريح الشخصي والاتهامات بغير دليل، وخلق ونشر الإشاعات وتعمد صناعة حالة الفوضى بين فئات المجتمع.المشكلة الأساس لدى كثير ممن يرفعون مطالبات الإصلاح السياسي والديمقراطية والحكومة المنتخبة، هذا بالإضافة إلى غياب الرؤية العامة والخطة الواضحة واستعجال القطاف، كما سبق لي أن كتبت عن هذا مراراً، أنهم فشلوا في تقديم أنفسهم كنماذج ديمقراطية حية كما أسلفت، الأمر الذي خلق انطباعات سلبية حادة وأنشأ مخاوف كبيرة لدى قطاع كبير من الشارع. وهو قطاع لا يميل ناحية السلطة أبدا، بل يرفض فسادها ويتبرأ منها بلا تردد، ولكنه غير قادر في ذات الوقت على قبول فكرة أن يأتي الإصلاح عن طريق هذه النماذج التي لطالما تناقضت ممارساتها على الأرض مع ما ترفعه من شعارات، الأمر الذي يجعله يعتقد أن المستقبل في وضع خطير إن هو صار إليها، ليظل لذلك متمسكا بتلك المقولة الدارجة: "خلك على مجنونك، لا يجيك اللي أجن منه"!