فجر يوم جديد: {وينن}؟
كل من قابلته عقب عرض الفيلم اللبناني {وينن؟} في مهرجان دبي السينمائي الدولي تولدت لديه قناعة بأن العنوان يعني: {أين المفقودون الذين اختفوا إبان الحرب الأهلية اللبنانية؟}. لكن جملة عابرة جاءت في السياق أكسبت العنوان والفيلم بعداً أكثر اتساعاً وشمولية، عندما أكدت أن المقصود «أين ضمائر هؤلاء المسؤولين» الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء تحديد موقف ما يقرب من 17 ألف مفقود مجهول المصير منذ انتهاء الحرب في 13 أكتوبر 1990!«وينن؟» أنجزه ستة مخرجين لبنانيين في 75 دقيقة سردوا من خلالها قصص ست نساء لبنانيّات فقدن الأب أو الأخ أو الابن، وما زلن يتشبثن بالأمل في عودتهم أو يعرفن على الأقل إذا كانوا ما زالوا على قيد الحياة أم تغمدهم الله برحمته، ومن ثم وافقن على الاعتصام أمام البرلمان اللبناني لإحياء قضية عودة المخطوفين؛ فالأولى «كارول» امرأة عملية وعلمانية تتزعم الدعوة إلى الحشد بعدما خُطف أباها في السبعينيات، ورغم أنها لم تعرفه فإنها تفتقده وتسعى إلى إعادته إلى أمها التي لا تصدق أنه سيعود. أما «لطيفة» العجوز فما زالت تنتظر، وزوجها الكهل، عودة الابن المفقود، وتتعامل معه وكأنه في سهرة مع أصدقائه سيعود منها متأخراً، ومن ثم تترك له الباب موارباً ليدخل من وراء أبيه، كما كان يفعل كل ليلة، ومع صرير الباب تظنه عاد، وفي كل مرة يخيب أملها لكنها لا تتوقف عن مخاطبة صوره، وتنخرط في البكاء، بينما يبدو الأب مشغولاً بإصلاح الغيتار الذي أحبه، وفي «مونولوج» هو الأجمل والأكثر عذوبة وإنسانية يقدم المخرج جاد بيروتي مُعادلاً موضوعياً وبصرياً للعائلة المقدسة؛ فالأم تخاطب تمثال العذراء «مريم»، التي تنتظر ابنها في المغارة ليلة عيد الميلاد، قائلة بحدة: «وأنت أيضاً في انتظار عودة ابنك... ردي لي ابني أرد لك ابنك» ثم تحتضن التمثال، وتتأسف وتبكي وتتوسل: «ردي لي ابني» بينما تترد في الخلفية موسيقى جنائزية.
«تقلا» بدورها مُعلمة أطفال، في الخامسة والأربعين من عمرها، أمضت عشرين سنة في انتظار التعرف إلى مصير شقيقها المختطف، الذي عاشت معه أجمل أيام حياتها، ورغم كراهيتها للاعتصامات فإنها خشيت أن تخذله، وهو الذي لم يخذلها يوماً، وترفض دعوة زميلتها للزواج قبل أن تحدد موقفه، وعندما تقول صديقتها: «الحرب راجعة» تعلق بنبرة كلها تشاؤم وأسى: «هو إحنا طلعنا منها علشان نرجع لها». ولا تختلف عنها «دياماند»، التي تبحث عن أبيها الذي اختفى بعد تواجده في تظاهرة يسارية، وتحاول أن تنسى أمره ولكن حياتها ارتبكت بعدما تركها وهي في السابعة من عمرها لأم ديكتاتورة حاصرتها بالتعليمات والأوامر وإسداء النصائح، ولما تزوجت انفصلت عن زوجها وعادت إلى عشيقها الذي هجرته، وطوال الوقت تشعر بأنها لن ترى الأب ثانية، بينما قدمها المخرج طارق قرقماز، عبر تصوير أخاذ، وإيقاع رصين، وكأنها «الطير يرقص مذبوحاً من الألم»؛ فالقضية الإنسانية لم تحتل وحدها اهتمام المخرج، وإنما نجح في تغليفها بلغة سينمائية رقيقة وشاعرية. كريستال أغنيادس، التي ولدت في لبنان العام 1990، ودرست السينما في «جامعة سيدة اللويزة»، اختارت الجرأة نهجاً لها، وهي تقدم شخصية «كارمن»، التي تعيش صراعاً طوال الوقت، كونها لم تحب زوجها المختطف يوماً، وتشعر بالوحدة بسبب إقامة ابنها في أبو ظبي، وانشغال ابنتها عنها، وإحساسها الدائم بأنها فشلت في ممارسة دور الأب والأم معاً، لكنها تتمنى عودته عله يلم شمل العائلة، ولفرط تشويشها تنام في فراش عشيقها في الليلة التي تسبق مشاركتها، صبيحة اليوم التالي، في الاعتصام للمطالبة بعودة زوجها، وتسأل نفسها عما إذا كان يحق لها أن ترافق رجلاً بينما زوجها مفقوداً وليس ميتاً، وما إذا كانت ستُصنف كعاهرة إذا أحبت من جديد، وتُناشد المجتمع أن يُحدد موقفها: «أهي متزوجة أم مطلقة أم مهجورة أم أرملة أم عانس أم عجوز أم عشيقة»!المثير أنه مع ظهور الشخصية النسائية السادسة «ندى»، زوجة نائب البرلمان، بدا وكأننا أمام فيلم روائي طويل تلتئم خطوطه، وتقترب نهايته الدرامية؛ فالمأساة لم تفرق بين «مصطفى» المسلم و»طوني» المسيحي، واللبناني والمصري (من بين المفقودين طالبان مصريان في جامعة بيروت)، بل إن صورة «المفقود» تجمع الجدة والأم والزوجة والعشيقة والحفيدة، وكأنها تُعيد ما انقطع، وتلم الشتات، وتكشف أنهم جميعاً أبناء عائلة واحدة.تحية للمؤلفين: جورج خباز، دياماند أبو عبود ونيكولا خباز ومعهم: ناجي بشارة (مخرج كارول)، جاد بيروتي (مخرج لطيفة)، زينة مكي (مخرجة تقلا)، طارق قرقماز (مخرج دياماند)، كريستال أغنيادس (مخرجة كارمن)، ماريا عبد الكريم (مخرجة ندى) وسليم الهبر (مخرج ساحة البرلمان) على هذه التجربة السينمائية التي تنحاز للبشر، وتُعلي من قيمة الإنسانية!