قبل عقد من الزمان قال عبدالله بشارة: الخليج هو الجزء السليم الصحي في الجسم العربي، التساؤلات المطروحة: لماذا قال بشارة تلك المقولة؟ وهل مازالت صادقة إلى اليوم؟ وكيف يواجه الخليج التحديات والتحولات الجديدة؟
رأى بشارة أن قيام مجلس التعاون الخليجي 1981 حصَّن الجسم الخليجي وقوى مناعته السياسية والثقافية تجاه 3 آفات مهلكة: غزو الفكر القومي، والطرح الأيديولوجي اليساري، وشعارات الإسلام السياسي، والتي كانت جميعها، ومازالت، بلاءً على مجتمعاتها ومبددة لثرواتها ومهدرة لطاقات أبنائها ومشردة لهم في الآفاق.تحدث بشارة في سِفره الضخم والممتع "يوميات الأمين العام لمجلس التعاون 1981- 1993" عن ظروف نشأة مجلس التعاون، فلخصها فيما يأتي: 1- بروز الدور العراقي إثر تراجع الدور المصري بعد "كامب ديفيد" 1978، ليبرز العراق ويمارس دوراً استفزازياً لدول الخليج عبر دعم حركات المعارضة اليسارية والقومية. لقد تعرض قادة دول الخليج في قمة بغداد 1980 لأجواء كريهة وعمليات ترهيب وتهديد بهدف الضغط عليهم للموافقة على خطة عزل مصر. 2- سقوط نظام الشاه وتفرغ إيران الإسلامية لسياسة تصدير الثورة والتدخل في شؤون المنطقة. 3- التمرد الظفاري اليساري المدعوم من التحالف الثلاثي: اليمن، وليبيا، وإثيوبيا. 4- الحرب العراقية الإيرانية 1980 وتداعياتها على الأمن الخليجي وعلى حدوده الجغرافية المتوارثة. 5- إحاطة دول المجلس بتحالفات أيديولوجية معادية: شرقاً وغرباً وجنوباً. 6- التغيرات السياسية في الساحة الدولية إثر غزو روسيا لأفغانستان والنزعة التوسعية لموسكو.هذه أهم دوافع قيام مجلس التعاون، إذ استشعر "الآباء المؤسسون" قبل 31 عاماً، حجم المخاطر المحدقة بالخليج، وكانوا على وعي بالأطماع الإقليمية والدولية فيه فكانت إرادته الإجماعية قيام كيان خليجي يكون عاصماً للخليج ومحصناً للجسم الخليجي أمام غزو التيارات الأيدلوجية المهلكة، واستطاع القادة بموروث الحنكة والحكمة والعراقة الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم قيادة "سفينة التعاون" في بحر لُجي متلاطم ورياح هوجاء من كل مكان إلى بر الأمان ليحقق الخليج ما ينعم به اليوم من ازدهار اقتصادي وتنمية شاملة ونهضة عمرانية وأوضاع مستقرة واستثمارات عالمية وخدمات متطورة. الخليج اليوم هو الكيان العربي الأكثر انسجاماً والأكبر انفتاحاً على العالم والأعظم اشراقاً وأملاً، ينعم أهله بمباهج الطاقة ومنجزات الحضارة، حتى أصبح حلم كل عربي وغير عربي أن يأتي إلى منطقتنا للإقامة والعمل، من كان يظن أن هذا الأوروبي وهذا الأميركي يأتيان ليدفعا الملايين من أجل شقة على الخليج؟ إنهما يدفعان لأجل الأمن والاستقرار والحياة الهانئة من غير منغصات دفع الضرائب للدولة!كيف استطاع الخليجيون تحقيق كل ذلك؟! إنه العمل الجماعي المنظم وسياسة التسامح وثقافة الخليج المتصالحة وحكمة قادة دول مجلس التعاون، لقد نجح الآباء في الماضي في مواجهة التحديات وأقاموا هذا الكيان التعاوني وحصَّنوا الجسم الخليجي، لكن الخليج اليوم يجد نفسه في مواجهة مخاطر وأطماع وتدخلات خارجية مختلفة، وهناك مد ربيعي أوصل قوى أيديولوجية لها نظرة وتوجهات مغايرة لدول الخليج، إلى السلطة، وهناك فرز طائفي عنيف إضافة إلى حركات تطرف وعنف تتستر بالإسلام وتعيث في أرض المنطقة العربية فساداً وقتلاً وتخريباً بهدف إسقاط الدولة الوطنية وتفكيك المجتمعات العربية، فكيف تواجه مجتمعات الخليج ونظمها الحاكمة هذه التحديات؟ هل تستطيع هذه الدول أن تبقى بمنأى، محصنة من تأثير هذه التحولات؟! وهل يمكن أن يصل المد الربيعي إلى دول الخليج؟هذه التساؤلات مطروحة اليوم وهناك من يرى أنه لا عاصم اليوم أمام دول الخليج من امتداد هذه الثورات إليها، ولكن الرأي الغالب يرى أن الخليج لا يزال محصناً ومنيعاً أمام هذه التغيرات، كون التركيبة السياسية والاجتماعية الخليجية تختلف عن تركيبة دول الربيع، فمازال نظام القبيلة متجذراً مسنوداً بتحالفات وعصبيات تعطي الشرعية للحاكم، وهي شرعية أعمق من شرعية النظم الجمهورية، وأيضاً فإن طبيعة النظم الخليجية لم تمارس أساليب القهر والتعذيب والتسلط وانتهاك الكرامات وإذلال آدمية الشعوب كما حصل في دول الثورات.ومن هنا فإن الخليج ليس بحاجة إلى ثورات ربيع لأنه يعيش ربيعاً مزدهراً، لكن طموحات الخليجيين كبيرة، يريدون لمجتمعاتهم المزيد من التقدم والازدهار، والجيل الجديد من الشباب العرب، الذين يشكل أغلبية السكان، لديه طموح كبير وهو يختلف عن جيل الأمس بتطلعاته وطموحاته إلى نوعية من الحياة أفضل، خصوصاً في ظل توافر الموارد المالية الضخمة لدوله، الخليج اليوم أمام نوعين من التحديات:أولاً: تحديات الداخل: إن تحصين البيت الخليجي بتحقيق سلسلة من الإصلاحات الشاملة هو خط الدفاع الأول للخليجيين في مواجهة المخاطر والأطماع والتدخلات الخارجية، كما أن تفعيل مفهوم "المواطنة" كأساس لعلاقة المواطن بالدولة وتوسيع قاعدة المشاركة وإصلاح الخلل البنيوي في الاقتصاد القومي ليكون اقتصاداً وطنياً يجني ثمرته المواطنون، إضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، سواء في الوظائف العامة أو في التعليم أو العلاج أو الإسكان أو التقاضي أو الثروة والاستثمار، وكذلك مكافحة الفساد المالي والإداري المستشري وإعمال سيادة القانون على الجميع وتعزيز الانتماء والولاء الوطني والمسارعة إلى تصحيح الخلل في التركيبة السكانية بسبب السيل المتدفق من العمالة الوافدة كالطوفان المؤدي إلى الشعور بالغربة في الأوطان، بحسب تعبير الفريق ضاحي خلفان، كلها أمور تشكل بنوداً أساسية في استراتيجية الإصلاح الشامل والملح لدول الخليج.ثانياً: تحديات الخارج: هناك جملة من التحديات الإقليمية والدولية تشكل مهددات للأمن الخليجي من أبرزها 1- الدور المتراجع للحليف الأميركي. 2- الدور المزعج والمشاكس للجارة المسلمة على الضفة الأخرى. 3- التقارب الأميركي الإيراني على حساب مصالح وأمن الخليجيين. 4- البرنامج النووي الإيراني. 5- وقوع العراق الشقيق تحت النفوذ الإيراني. 6- التداعيات الناتجة عن زلزال الربيع العربي والذي أفرز قوى أيديولوجية صاعدة، تحمل رؤى مغايرة للخليج ونظامه وقادته، بل إن بعض تياراتها لا تخفي إنبهارها بالنموذج الإيراني، ولا أدل من دفاع رموز "إخوانية" عن التمدد "الإخواني" في المنطقة، وهنا لا ننسى تصريح المرشد العام السابق (عاكف) لجريدة النهار بأنه يؤيد البرنامج النووي الإيراني حتى لو كان بغرض إنتاج قنبلة نووية!كل هذا يحتم على الخليجيين أن يفعِّلوا دعوة خادم الحرمين الشريفين بضرورة الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، فعالم الغد عالم لا يرحم الدول المتفرقة ولا يحترم إلا التكتلات القوية، ولا شك أن الكيان الخليجي الموحد يشكل وزناً وثقلاً دولياً أكبر، ومن هنا على الخليج أن يطور منظومته التعاونية إلى صيغة اتحادية قادرة على الوفاء بمتطلبات المرحة القادمة.* كاتب قطري
مقالات
الخليج اليوم والتحديات
25-11-2013