في أحد كتبه التي تقترب من نَفَس السيرة الذاتية، يذكر قاسم حداد أنه حين أطلق اسمه كشاعر وأديب اختار أن يتصرف بهذا الاسم بشكل طفيف. فبدلاً من أن يكون (جاسم الحداد) وهو الاسم في الوثائق الرسمية، اختار (قاسم حداد) اسماً للشهرة أو اسماً أدبياً.

Ad

 ورغم أنني لا أذكر تعليلاته لهذا الاختيار الذي أجده موفقاً وفي محله، إلا أنه يمكن لأي متأمل أن يدرك غاية هذه اللمسة الفنية الجميلة.

فالمبدع غالباً ما يتطلع إلى تحقيق ذاته المستقلة، ويرنو إلى التحرر من الرموز (الأبوية) وثقل مؤونة الانتماء إلى (أل) التعريف التي تشير إلى العشيرة أو القبيلة، وتحيله إلى مجرد رقم بين مئات أو ألوف يقاسمونه اللقب والدلالة، ثم ان قلب (القاف) (جيم) وإلحاق (أل) التعريف سمة لغوية وتقليد مجتمعي يكاد يقتصر على منطقتنا في الخليج والجزيرة، وقلما يُعرف على نطاق الوطن العربي. ورغبة الشاعر تبدو واضحة في نزوعه إلى تخطي حدوده الجغرافية الضيقة ليصبح اسماً أكثر ملائمةً لآفاق أرحب.

 بل ان البعض قد يذهب أبعد من ذلك، حين يختار التخلي تماماً عن اسمه الرسمي ويستبدل به اسماً ذا دلالة رمزية أو معنوية، كما فعل (أدونيس) الذي ربما وجد في (علي أحمد سعيد) اعتيادية مضجرة وتكراراً باهتاً، ففضّل عليه ما يرمز إلى الأسطورة والتجدد والانبعاث المتواصل من رماد الموت. وغيره كثيرون في مجال الأدب والفن غلبت أسماؤهم المستعارة على أسمائهم الحقيقية لغايات فنية وجمالية ونفسية.

 راودتني هذه الخواطر وأنا أقرأ في مجموعة قصصية بعنوان: (النيرفانا أحياناً مغلقة) للكاتب (عبدالله العتيبي)، ليحيلني الاسم مباشرة إلى الشاعر (عبدالله العتيبي) ببصمته المميزة في الشعر الغنائي الوطني وقبل ذلك بمجموعاته الشعرية المعروفة. وتمنيتُ لو اتكأ كاتب المجموعة القصصية على اسم أبيه أو جده كاسم فني بدلاً من القبيلة، ليعطي لنفسه الامتداد الحر نحو مسارات أخرى تميّزه عن غيره. إذ يخيّل لي أن هناك – ربما- مئة (عبدالله عتيبي) في الكويت وحدها، فضلا عن مئات أخرى في البلدان المجاورة بحكم الامتدادات القبلية التاريخية.

 بل ان تسلسل الخواطر أحالني إلى دائرة أكبر، فتمنيت لو اختارت بعض أديباتنا الجميلات تقديمَ كتاباتهن المميزة بأسماءٍ بعيدة عن القبيلة وثقل مؤونتها، وانطلقن بفضاءات أكثر حرية وبأجنحة أكثر خفةً وشبهاً بأرواحهن المتفرّدة. نقول ذلك مع التقدير المطلق لأسماء العشائر والقبائل الكريمة وأهمية التعريف بها كإرث اجتماعي وملاذ نفسي. ولكن يبقى للعمل الأدبي والفني وللمشتغلين به سماتهم الخاصة التي نأمل ألا تضيع وسط الكثرة والتشابه.

 بالعودة إلى مجموعة (النيرفانا أحياناً مغلقة)، يثور في نفسي السؤال – مرة وربما مرات- حول معايير انتشار أو عدم انتشار العمل الأدبي وتداوله قراءةً وتقييماً نقدياً. فالمجموعة متميّزة بكل المقاييس: لغة ورؤية إنسانية وتقنيةً فنية، ورغم ذلك تكاد تنزوي في زاوية باهتة شحيحة الضوء!

 لا أدري كيف أحلل هذه الظاهرة، ولكن أعتقد أن العمل الجيد في هذا الزمان لم يعد قادراً وحده على الوقوف على قدميه، وإنما أصبح للمسألة متعلقات أخرى وحسابات أخرى، وعلى قدر ما يجيد الإنسان استعمال هذه الأدوات على قدر ما ترتفع حظوظه في الظهور والشهرة أو تنخفض. وعلى رأس هذه الأدوات تأتي شبكة العلاقات الشخصية وما تقترحه من تبادل مصالح ومنافع. كما أنه الآن وبفضل وسائط التواصل الاجتماعي الإلكترونية أصبح المعيار هو كم لديك من أصدقاء على الـ"فيسبوك"، وكم لديك من المتابعين على التويتر والانستغرام، وكيف حالك على الواتسآب؟ وليس ضرورياً أن يقرأ هؤلاء ما تفيض به قريحتك – وغالبيتهم لا يقرأ-، وإنما يكفي أن يروّجوا لك عبر حساباتهم، ويسوّقوا إنتاجك بالدعاية لك عبر (ري تويت) و(شير) وطلب (فولو/ متابعة). إنها الشللية مرة أخرى يا أصدقائي!

 أنا لستُ ضد الأدوات الحديثة، وإنما ضد الخُدع الكثيرة التي تُرتكب من خلالها. فكم من عمل لا يستحق قيمة الورق الذي طُبع عليه، وتراه وقد طار صيته في الآفاق، وسدّ عليك منافذ السمع والبصر حتى بتَّ تخشى أن تفتح صنبور الماء فيطلع لك مستعرضاً تفاهاته! بينما تنزوي الأعمال المتميّزة في زوايا الإهمال والنسيان، حين تعزّ (الشلة) وتنتفي (الفزعة).

 (النيرفانا أحياناً مغلقة) مجموعة قصصية جادة وجميلة، وتستحق أن تفسحوا لها مكاناً عبر وسائل التواصل الإلكتروني، إعجاباً وحبّاً لا غير.