بدا عمر أبو ريشة في عامة دواوينه مخلصاً للنص العمودي ولموسيقى العروض الخليلية، إذ لم نجد له تجريباً في قصيدة التفعيلة أوقصيدة النثر. وتفسيرُ ذلك يعود إلى طبيعة مرحلتِه الزمنية والعمرية التي عاصرها. فعمر أبو ريشة ولد عام 1910 وتوفي عام 1990، أي أنه عاصر تباشيرَ ولادة قصيدة التفعيلة حين كان في العقدِ الرابع والخامس من عمره، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التجريبَ في هذا الشكل العروضي الحر بدأ مطلعَ خمسينياتِ القرن العشرين، وانتشر وتأكد في ستينياته. أما قصيدةُ النثر التي لم تشهد رواجاً حقيقياً إلا مطالعَ الثمانينيات فلم يدركها عمر أبو ريشة إلا وهو في السبعين من العمر. ولعله من البدهيات أن أسلوبَ الشاعر – أي شاعر - وتكوينَه الفكري والفني عادة ما يتبلور في سني الشباب والعنفوان، وهي المرحلة الحقيقية والمهمة التي تتفجّرُ فيها القريحة وتتألقُ بأفضل ما لديها من مواهب. ويبدو أن عمر أبو ريشة كانت موهبتُه قد تأصلت وألقت مراسيها عند شواطئ النص العمودي، فظل يراوحُ عند هذا اللون من الشكل الفني طوال فترة عطائه وحياته، بل يمكن القول ان النصَّ العمودي غدا سمة شخصية وفنية للشاعر.

Ad

  ويمكن أن نضيفَ في هذا المقام عاملَ التكوين الثقافي الذي ميّز عمر أبو ريشة، والذي كما بدا كان يمتاحُ من جذورٍ تراثية واضحة وعلاقةٍ نفسيةٍ راسخة مع اللغة بموروثاتها البلاغية والبيانية. اتضح ذلك في نصوصِه القومية التي تقتربُ في نَفَسها من شعر الفخر والحماسة، وتجنحُ في تراكيبها ومفرداتها إلى الجزالةِ والفحولة. ولكن كيف سيطوّعُ يا ترى هذه اللغة الرصينة في شعر الحب؟

هذا التحدي لم يكن صعباً بالنسبة لشاعرٍ يمتلكُ القدرة على تطويع اللغةِ بما يتناسبُ ومقاماتِ الأقوال والأحوال. فرغم التزامِه بتلك اللغة الصقيلة الشامخة، فإنه كان هناك متسعٌ من المناورة في استخدام التعابيرِ والمفردات التي تتناسبُ وعاطفة الحب الفيّاضة بالشجو والشجن والحنو، أو بالمرارة واللوعة.

ورغم كل عراقيل النص العمودي وقيودِه، فإن الشاعرَ نجح في خلق نصٍ مميز يحمل بصمته الخاصة وحساسيته المرهفة إزاءَ مقامات الحب وأحواله. ولعل أوضحَ ملمحٍ من ملامح التجديد في النص الوجداني عند عمر أبو ريشة يظهرُ في مسألةِ الاشتغال بالنص المكثف المُبأر الذي ينطوي بجرمِه الصغير القليل على العالم الأكبر. فيظهرُ النصُّ القصيرُ بأبياتِه القليلة وكأنه أيقونة فنية مكثفة تشعّ بالمعاني العديدة والمقاصد البعيدة دون أن تتعثرَ بفائضٍ من حشو الألفاظ أو زوائدِ المعاني والمشاعر. ثم هناك أيضاً تلك الوحدة البنائية والنفسية التي تنتظم هذا النص المكثف وتتدرج مع تدرجاتِ إيقاعِه ومعانيه حتى نصل معها إلى ذروتِه التي عادة ما تنطوي في البيت الأخير ِعلى ما يشبه المفاجأة أو الصدمة أو الخلاصة المبتكرة.

أما السمةُ الفنيةُ الأخرى للنص الوجداني عند الشاعر فهي تتمثل في كونه نصاً سردياً ذا نزعة درامية واضحة. فهناك دائماً ما يشبه القصَّ في سياق النص، أو بالأحرى ميلٌ واضح إلى أسلوب الحكاية والانسياقِ وراء إغراءاتِ السرد وتفاصيله.

حين نأتي إلى الصورة الشعرية عند عمر أبو ريشه، فإننا نجدها لا تتجسدُ عبر الصور الأحادية المبتسرة، بقدر ما تظهر كلوحة كبرى ممتدة عبر النص بأكمله. وتلك إحدى ميزاتِ شاعرية أبو ريشة الذي سبق أن ذكر في أحد لقاءاته الصحفية، أنه "شاعرُ قصيدة وليس شاعر بيت". وميزةُ الصورة الممتدة في النص تتمثل في تحويلِ موضوع النص – الذي يبدأ كمدرك نفسي شعوري – إلى لوحةٍ تصويرية كبرى تنمو باطرادٍ وتؤدة إلى أن تصل إلى آخر لمسة ريشةٍ عند نهاية سطرِها الأخير. ومن هنا يصعب تصوّرُ إمكانية اقتطاع أجزاءٍ من هذه اللوحة، لأن الاقتطاعَ سوف يثلمُ هذا التكاملَ والاطراد في المعنى والمبنى.

بقي أن نقولَ في خاتمة هذا المقال أن شخصية عمر أبو ريشة الشعرية قد تألقت – خاصة فيما يتعلق بشعر الحب – بخروجِه عن النمطِ الموروث المعهود في هذا الغرض الشعري. فطالما ورث موضوعُ الحبِّ والغزل تلك اللغة التقليدية البائدة عن الهجر والوصال والعذول والوشاة والسهر والضنى... إلخ. ولكن عمر أبو ريشة تجاوز هذا الموروث ورسم أفقه الخاص في علاقته مع المرأة. فقد أعاد صياغةَ الكيانِ الأنثوي، وجعلها نداً له في التجربة، واقتسم معها الحوارَ واللغة المشتركة، ومنحها الحرية بلا حدود.

وأعتقدُ أن هذه المعالجة، سواءً في مجال الفن أو في مجال الرؤية، جديرةٌ بأن تُحتسبَ لمصلحة الشاعر ومشروعِه الشعري، وتحجزَ له مقعداً مهماً بين شعراء المرحلة.