يؤمن كثير منا بأن التعوّد فخٌ ينصبه الوقت للحب، قلّما نجا الحب من براثنه عند الوقوع به، ولذا اتّخذ المحبون التعوّد عدواً لدوداً لهم، ونقشوا اسمه بحروف من رعب في قائمة المسجلين الخطرين، لأنه وكما يزعمون يُفقد الحب دهشته، ويفك سحر الحبيب، ويسلب رائحة الطفولة من القلوب، ويهيل على الجمر في موقد الشوق التراب.

Ad

يظن كثير من المحبين أن اعتياد الحبيب، يعرّي الحب من ردائه الذهبي المرصّع بجواهر الفرح به، ويُلبسه ثوب الملل المسموم، لا تعود اللهفة زاد اللحظات، ولا الكلمات أجنحة فراش، ولا يعود لرنين الهاتف فرحة قلب نذر نبضه لري زهرة الانتظار كي لا تذبل. ولا لـ»اللمسة» فعل لذعة كهرباء، ولا للهمسة طعم السكّر المذاب، ومازال المحبون يتعاطون مع التعوّد في إطار هذا الفهم له، على أنه القاتل رقم واحد لبهجة، مشاعرهم، والمسؤول عن سلبها دهشتها الأولى وردّها لعاديتها الرتيبة.

وفي اعتقادي أن كل ما يقال عن الاعتياد في الحب مردّه أساساً إلى أننا لا نعرف عن الحب سوى طفولته فينا، أو طفولتنا فيه،

يولد الحب فينا طفلاً نبتهج به، نعشق حروفه الأولى التي تخرج من بين شفتيه، وخطوته الأولى، وشغبه الطفولي، نشاركه اللعب في فقاعات الصابون، والطائرات الورقية، نشعر بأن كل سلوكياته تتناغم مع طفولتنا التي خنقناها بأيدينا رغماً عنّا، بينما هي لاتزال تتنفس فينا، فنقدّر للحب فعلته هذه، ونتمنى عليه أن يبقى طفلاً ليؤنس طفولتنا التي بعثها للحياة بعد أن ظننا أنها ماتت، إلا أن الحب مع الزمن لا يبقى كما ولد طفلاً، إنه يكبر مع الوقت، ويصل لسن البلوغ، ونكتشف في وقت ما أن صوته قد أصبح خشنا بعض الشيء، وأن ملامحه قد تغيرت، وأصبح أكثر نضجاً، فيفقد كثيراً من جماله في أعيننا، إذ لا يعود ينطق الحروف بلثغته التي أحببنا حينما كان صغيراً، ولا يعود يزعجنا بالبكاء إن منعنا عنه الحلوى، ولا يتسلل في منتصف الليالي ليندس معنا تحت اللحاف بحجة أنه رأى حلماً مزعجاً، ولا يحرجنا بكلمة صادقة بريئة أمام الغرباء،

الحب يكبر مع الأيام فلا يعود ذاك الطفل الذي عشقنا بالأمس، فيبدأ يتصرف بنوع من المسؤولية والتعقل، وتفشل كل محاولاتنا في أن نردّه طفلاً، ليس حباً في طفولته فقط وإنما حباً في طفولتنا أيضاً والتي بعثت معه، تصبح سلوكيات الحب الذي وصل سن الرشد مألوفة لدينا نحن كراشدين، لا تثير فينا دهشة ولا حماسة، ولا تدفعنا للضحك كما كانت في السابق، فيبدأ الملل يتسرب إلى قلوبنا لهذا السبب.

عندما يكبر الحب في العمر تصبح الألفة أبرز سماته، هذه الألفة هي التطور الطبيعي لطفولته، إلا أن كثيرا منا يصفها بالاعتياد الملل والرتيب، والخلل ليس في هذا التطور الطبيعي للحب ونموه العقلي، إنما الخلل في قلوبنا التي تريد أن تبقى طفلة، وفهمنا القاصر للحب الذي يرفض بلوغ سن الرشد، وعقولنا التي ترفض أن تبتكر طرقاً أخرى للتعامل مع طفل الأمس الذي كبُر.

فالإشكالية في اعتقادي ليست وقوع الحب في فخ التعوّد والاعتياد، وإنما وقوعنا نحن في فخ طفولة الحب.