«كاتبة حصلت على منحة التفرغ مدى الحياة للكتابة الإبداعية، وهي غير معنية بما تؤثره الساحة الثقافية والسوق، مخلصة دوماً في كتاباتها لما تؤمن به»، بهذه الكلمات تصف الروائية والمترجمة دنى غالي، الكاتبة الدنماركية «كريستن تورب-Kirsten Thorup» وتضيف في مقدمتها لرواية كريستن «إله الصدفة» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة إبداعات عالمية، العدد 396: «كانت كريستن من ضمن المؤسسين لجمعية الصداقة الدنماركية الفلسطينية في عام 1988».

Ad

رواية «إله الصدفة» تقدم بحبكة روائية شيقة محاولة المرأة الدنماركية الغنية «نانا»، مساعدة الفتاة الافريقية «مارياما» على التأقلم مع حياة الغرب، وعقد صداقة عميقة معها، إلا أنها تفشل في مسعاها، وكأن لسان حال الكاتبة كريستن تورب يشير إلى استحالة انسجام الفقر والغنى، الأسود والأبيض، حتى لو جاءت محاولات البعض المخلصة.

في إحدى سفراتها، تشعر بطلة الرواية «نانا» أنها منجذبة لفتاة غامبيا الجائعة والضعيفة «مارياما»، التي قابلتها على شاطئ البحر كإحدى البائعات الفقيرات، وسرعان ما تدور الفكرة برأسها عن إمكانية رعايتها لهذه الفتاة الفقيرة، وتحمل مصاريف دراستها، لكن أسرار وتعقيدات المجتمع الافريقي تحول دون ذلك. لتقدم المرأة الدنماركية وعداً للفتاة باستعدادها ترتيب مجيئها إلى أوروبا. خاصة أن نانا الدنماركية المسيحية عثرت في هذه الفتاة المسلمة البسيطة على شيء يخاطب روحها ومشاعرها. لكن حين تصل مارياما إلى لندن للعمل لدى أسرة إنكليزية، وتترك نانا بلدها الدنمارك للعيش في لندن، لتكون بالقرب من صديقتها مارياما، تبدأ تعقيدات حياتية جديدة بالظهور، لتنتهي باختلاف وابتعاد مارياما عن نانا، وضياع حلم الأخيرة، في إقامة علاقة صداقة وطيدة مع الفتاة الفقيرة.

يبدو جلياً انحياز الروائية كريستن تورب لبنات جنسها، وكشفها لمعاناة المرأة، سواء كانت غنية أو فقيرة، أوروبية أو افريقية، بيضاء مسيحية أو مسلمة، ولقد تمثل ذلك من خلال شخصية بطلة الرواية نانا المرأة الدنماركية التي تعيش معاناة المرأة الغربية، بوحدتها وعزلتها وفقر عالمها الداخلي، وحاجتها الملحّة لشخص آخر يرد عنها جزءاً من عذابات وحشة روحها. ويكون ملاذاً لضياعها. والأمر ذاته في معاناة وضياع وعوز الفتاة الافريقية مارياما، وعذاباتها في بؤس وفقر بلدها، وبانتقالها إلى مجتمع أوروبي برتم حياة مختلف، لا يقدم لها سوى الضياع، وكأن قدر المرأة أينما كانت أن تعيش وتحتمل وجعها.

الرواية تقدم صوراً دالة لحياة الفقر والبؤس للمجتمع الافريقي، ومدى الظلم الذي ينال أفراده صغيرهم وكبيرهم، فكلهم يكد لتأمين لقمة عيش مغموسة بالتعب والوجع والمهانة، وفي المقابل تقدم الرواية صوراً دالة لحالة الضياع النفسي الذي تعيشه المرأة الأوروبية من خلال شخصية نانا، وكيف يقسو المجتمع الرأسمالي على الفرد، حتى تغدو الراحة النفسية مطمحاً لا مجال للوصول إليه.

إن انشغال كاتبة غربية، ومن دول الشمال الأوروبي التي يُنظر إليها بوصفها أكثر دول العالم رخاءً بقضايا العالم الثالث، وبقضايا الوصل الإنساني بين الغني والفقير، بين الأبيض والأسود، ليدلل على مدى وعي الكاتبة كريستن تورب الإنساني النزعة، وعلى إيمانها العميق بقضايا الإنسان أينما كان، وقناعتها بأن الجهد الفردي مهما كان مخلصاً فإنه أعجز من أن يردم الهوة بين الشمال والجنوب.

كريستن تورب المولودة عام 1942، ذات نتاج إبداعي عريض، يمتد على مساحة الشعر والقصة والرواية، وهي إلى جانب ذلك مهمومة بالقضايا الإنسانية، ولقد قدمت الروائية دنى غالي عملاً روائياً مهماً بإقدامها على ترجمة رواية «إله الصدفة»، وجاءت الترجمة أقرب ما تكون إلى روح الفهم العربي بسبب انتماء دنى العربي، وبسبب من كونها مبدعة تعرف تماماً عوالم الكتابة الروائية الإبداعية.