هل ثمة علاقة بين فيلم {سُلم إلى دمشق}، الذي عُرض للمرة الأولى في الدورة العاشرة لـ{مهرجان دبي السينمائي الدولي} (6-14 ديسمبر2013)، وبين اعتقال مخرجه محمد ملص، وهو يستعد لعبور الحدود اللبنانية، ثم الإفراج عنه؟

Ad

  اختتم «ملص» الفيلم بشاب يهرب إلى سطح المنزل، ويرتقي سُلماً يصعد به إلى السماء، ومع نهاية درجاته يهتف: «حرية»، وبعدها يحدث انفجار مدوٍّ يهز فضاء دمشق.

في المؤتمر الصحافي فسر «ملص»، الذي كتب الفيلم مع سامر محمد إسماعيل، النهاية بأنها تحمل إسقاطاً على «الذين خرج الأمر من أيديهم، وأرادوا صعود السُلم ليشاهدوا دمشق التي يشتهونها، وحين صعدوا دُمروا أو قتلوا أو غادروا أو صمتوا»، وأضاف أن كلمة «حرية» عنصر أساس في السيناريو، وأنه أراد أن «يكون صادقاً في إحساسه وتعبيره عن سوريي الداخل، ويخلق حنيناً ولوعة لمن غادر منهم»!

  كشف الفيلم، الذي لم يخل من الرموز والإسقاطات، عن موقف مناهض للنظام الحاكم في سورية؛ فالبطل يقول، وكأنه لسان حال «ملص»: «أعيش في بلد ما بيعطيني شيئاً، ويطالبني بكل شيء، يطلب مني أن أخاف، وأسكت»، وفي موضع آخر يقول: «اندهشت لأن والدي بعت لي كاميرا، وطلب مني أطلع ع الشارع وأصور ... ما يعرفش أن اللي بيطلع على الشاشة بيموت»، فضلاً عن الإشارة ذات المغزى إلى قيام البطل «فؤاد»، الذي يمتهن الإخراج، بزيارة قبر المخرج السينمائي الراحل عمر أميرالاي، الذي كان أحد أبرز مناهضي نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، وحزب البعث الحاكم، والرئيس الحالي بشار، وعندما يقترب من القبر يهمس لصاحبه: «انكسر الخوف... طوفان يا عمر طوفان» في إشارة إلى ما يجري على الأراضي السورية!

  تدور أحداث فيلم «سُلم إلى دمشق» (97 دقيقة) في بيت دمشقي قديم (يرمز إلى الوطن سورية) حولته صاحبته إلى بيت للطلبة، يسيطر عليهم هاجس الخوف من المجهول، الذي يدق الأبواب، عبر سيارات الشرطة التي تجوب الشوارع، والمقاتلات التي تُحلق في السماء، لكن شيئاً لا يمنع «غالية» ابنة طرطوس (المدينة الفينيقية القديمة)، التي تسكنها روح الفتاة «زينة» التي ماتت غرقاً، من السفر إلى دمشق لدراسة التمثيل، وتسكن بيت الطلبة، بتزكية من «فؤاد»، الذي ينجذب إليها ومن الروح التي تسكنها، وكما يوجه «ملص» التحية إلى الشاب التونسي محمد بوعزيزي، والكاتبين السوريين الكبيرين محمد الماغوط وسعد الله ونوس، الذي استشهد بمسرحيته «الفيل يا ملك الزمان»، وكذلك السيدة فيروز، والمخرج الإيراني عباس كياروستامي، يُنوه إلى الأسوار الشائكة، والمعتقلات، والبؤر المشتعلة، بسبب «التعب والخوف والأمل الضائع»، ونصب الجندي المجهول الذي يتجمع الناس حوله ليهتفوا «بالروح بالدم نفديك يا بشار».

 وفي مشهد لا تخفى دلالته على أحد تعود «غالية» إلى طرطوس لزيارة أهلها فتُصدم لحال والدها الضابط، الذي أحالوه إلى التقاعد، وانتهز فرصة متابعة الخطاب المتلفز للرئيس «بشار» ليسخر منه قائلاً: «المُنقذ بده مُنقذ» ويتهمه بإثارة الفتن بينما تعلق الأم: «من يدخل الجيش يعود شهيداً»، ولحظتها تتذكر «غالية» كيف كانت أمها «تحب سورية وفلسطين وحافظ الأسد ثم اكتفت بأن تحب والدي وبطلت تحب حافظ الأسد»، ولم يعد والدها يؤمن بأن ثمة أملاً في شيء، فبعدما كان يحلم، مع الملايين، بتحرير الوطن العربي كله وليس فلسطين وحدها، انتهى به الحال، عقب تسريحه من الجيش، مدمناً، وشظايا إنسان!

  يُشير «ملص» إلى الديانات المختلفة لساكني البيت الدمشقي ليؤكد أن الأحداث الجارية لم تحل دون تآلفهم، وخوفهم على الوطن من المصير المجهول الذي ينتظره. لكن قيمة الفيلم الحقيقية تكمن، في رأيي، بلغته السينمائية الرائعة، التي ترصد النضج الكبير الذي وصل إليه «ملص»؛ إذ مزج الفنون كافة، على رأسها الصورة (جود كوراني) التي تُكمل النص الدرامي؛ فاهتزاز الماء يوحي باضطراب البلاد، والمطر يحمل الخير القادم، والبرق والرعد نذير الخطر، بينما السجون يُساق إليها، ومن دون محاكمة، شباب في عمر الزهور، والعجوز تُقرر ألا تغادر البيت الدمشقي، بعدما ذهبت لأداء الصلاة في المسجد الأموي وهالها ما رأت من عنف ودم، وتقول الصورة ما يُغنينا عن الحوار (طائر يقع في شرك ستارة الغرفة قبل أن يحرره الشاب السوري وشاب يحطم جهاز التلفزيون في إيحاء بزيف الإعلام)، فيما يعكس شريط الصوت؛ حيث طلقات الرصاص، ودوي القنابل، والمروحيات، الواقع الأمني المتدهور.

  لجأ «ملص» إلى «كسر الإيهام» على الطريقة «البريختية»؛ فالممثل يتطلع إلى الكاميرا، ويخاطب الناس، في نبرة تحريضية، لينزلوا إلى الشارع بحثاً عن أنفسهم المفقودة، وكرامتهم المنتهكة، وحريتهم المسلوبة، لكنه، أي «ملص»، لم يكن مُحقاً في الربط بين ما يجري في وطنه ولأبناء بلده، وبين ما فعلته الفاشية في إيطاليا إبان حكم «موسوليني»!