قد لا تكون الثقافة تعني الثبات بالنسبة إلى حاملها، غير أنّ تحوّلات المثقّف ليست دائماً محكومة بالتحوّل الذي يستجيب لبوصلة المعرفة، لا سيّما إذا كان الحديث عن المثقّف السياسيّ، لأنّ الإغراءات تكثر وليس أوّلها المال وليس آخرها المناصب في عالم السلطة والنفوذ.

Ad

في مقدّمة كتابها «حوارات في المسارات المتعاكسة» أعلنت ثناء عطوي حقائق لا لبس فيها، وأتت الحوارات لتثبت هذه الحقائق. فالمثقّفون اللبنانيّون جاؤوا: «في زمن التضخّم الإيديولوجيّ، والحروب المتناسلة، والتحوّلات البنيويّة التي أنتجت صراعات اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، وهزائم وانقسامات»... وأمام هذا الواقع المتحوّل، والمفاجئ، المؤسف أحياناً والمغري أحياناً أخرى، توزّع المثقّفون بين السلطة والأحزاب والمنظّمات الثوريّة. ومن المثقّفين من عاد إلى الطائفة وغادر الوطن عقيدةً، ومن اعتبر القضايا الإقليميّة أولويّة... وبقيت لكلّ مثقّف القدرة على تفسير تحوّله بالشكل الذي يخدم صيرورته، ما يوحي أنّ هذا التحوّل، بالنسبة إلى صاحبه، ليس سوى نضج معرفيّ وتكيّف مع المستجدّ والطارئ، واستمرار في السعي إلى بلوغ الحقيقة.

أمّا قضايا المثقّفين فقد اختصرتها عطوي بثلاث: «العدالة الاجتماعيّة، الوحدة العربيّة، وتحرير فلسطين». وعليه فقد انتصر مثقّفو التحوّل للناصريّة، والقوميّة، وكلّ محاولة وحدة عربيّة، إضافة إلى تبنّي الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة. إلاّ أنّ ذلك لم يمنعهم في ما بعد من العودة إلى الالتزام بالأحزاب ثمّ الانقضاض عليها تحت تأثير الدين والمال والنفط والجهاد...

ولم يفت عطوي أن تقرأ التحوّل عند المثقّفين قراءة إيجابيّة أيضاً، إذ رأت السواد الأعظم من مثقّفي السياسة في لبنان: «من أحزاب يساريّة، وتالياً فإنّ فكر ماركس هو فكر جدليّ، وهو فكر التجاوز والتعالق ما بين النظريّة والممارسة». وقد لاحظت الباحثة أنّ الخيبة من القواسم المشتركة بين المثقّفين بسبب: «عجزهم عن التغيير، وإسهامهم في إنتاج زعماء أجهزوا على أفق التغيير».

قومية

انتقل حازم صاغية من البعث والناصريّة إلى الحزب السوري القومي وقال بعد تجربته القوميّة: «كم يتجسّد العار صورة حين أسترجعني رافعاً يدي اليمنى زاوية قائمة هاتفاً «تحيا سوريا». ورأى الحزب القوميّ حرباً فاشياً عنصريّاً، ووصل إلى قناعة جعلته يرفض الزعامة والقيادة المعصومة لأنهما من الكوارث على المجتمعات والشعوب والدول. ومن القوميّة إلى الماركسيّة وجّه صاغيه قناعاته، وبعد الثورة الإيرانية تحوّل ماركسيّاً من نوع آخر لأنّ بعض المجتمعات: «الدين فيها أقوى من الطبقة الاجتماعية على إحداث ثورة». وهو اليوم ينشد الدولة وتحقّقها لأنّها هي الوحدة في السياسة، وفي ظلال الدولة يجد نفسه اشتراكيّاً ديمقراطيّاً بروحيّة ليبراليّة.

روجيه عسّاف هو الفرنكوفوني والمسيحي والماركسي والمسلم. ولا شكّ في أنّ شخصيّته التعدّديّة تثير الجدل والمفاجأة، لأنّه انطلق في رحلته مشبعاً بالثقافة الفرنسيّة والعقيدة المسيحيّة، وما لبث أن اتّجه إيديولوجيّاً نحو الماركسيّة، فكان من أنصار الثورة الفلسطينيّة، ومن المناضلين في ساحة اليسار اللبناني، ومن المتأثّرين بالثورة الإسلاميّة، ليعود ويعتنق الإسلام. ويرى عسّاف أنّ الكنيسة لا تمثّل الفكر المسيحيّ، كما أنّ الأحزاب اليساريّة لا تمثّل الفكر اليساريّ، كذلك فإنّ المؤسّسات الإسلاميّة لا ترضي الفكر الإسلاميّ... ويبرّر عسّاف تعدّده بأنّ كلّ إنسان اليوم يملك هويّة متعدّدة، إذ لا هويّة صافية، وليست هويّته هو سوى هويّة مركّبة من كلّ التجارب التي مرّ بها.

انتماء ماركسي

فوّاز طرابلسي له تاريخ مع الانتماء الماركسي، وقد ربط نضاله بالمحلّي والعالميّ. وبقي ينظر إلى الحياة بخلفيّة ماركسيّة في الانتقال: «من الناصريّة إلى البعث إلى تيّار لبنان الاشتراكي» ليصير رمزاً من مؤسّسي منظمّة العمل الشيوعي. ورأى طرابلسي أنّ اليسار والشيوعيين كانت لهم تجربة حقيقيّة بين عامي 75 و76 محاولين السير بلبنان من الطوائف إلى الديمقراطيّة الموحّدة، غير أنّ التجربة وصلت إلى نهايتها مع دخول الدبابات السوريّة بعد اغتيال كمال جنبلاط... ويستمرّ طرابلسي، اليوم، ماركسيّاً ويساريّاً، مراهناً على «النبرة الاستقلاليّة للحزب الشيوعي» غير الموجودة عند فريقي 8 و14 آذار، والتي تستهوي كثيرين من الذين لا يريدون الالتحاق بالفريقين المذكورين.

أمّا دلال البزري فقد افتتحت حياتها السياسيّة بالنضال في منظّمة العمل الشيوعي، ولم تتردّد في حمل البندقيّة مع الفدائيين الفلسطينيين، إضافة إلى نضالها في المجتمع المدني. ووصلت إلى قناعة برفض الحرب مع إسرائيل، إلاّ أنّ السلام الذي تريده يجب أن يحترم حقوق الفلسطيني. وإلى جانب هذا السلام تنشأ دولتان: إسرائيلية وفلسيطينية، ولا تكون الدولة الإسرائيلية قائمة على دعم المستوطنات والمتشدّدين...

ويتشابه نضال عبّاس بيضون مع نضال مثقّفي عصره في التعدّد والتحوّل، ونجا في اليسار من وضع عقله في قوالب جامدة، ولم يجد ما يمنعه من دعم الرئيس بشير الجميّل بمقال شهير لأنّه ساوى بين الشهداء على اختلاف مواقعهم... وها هو الفضل شلق ينتقل من حزب البعث إلى حزب العمّال الثوريّ العربيّ، ومنه إلى الحزب التقدّمي الإشتراكي، ثمّ المناضلة إلى جانب الحزب الشيوعي... واللافت في مساره هو التحاقه بالرئيس رفيق الحريري ليصبح الرجل الأوّل حريريّاً على مستوى الاقتصاد والسياسة والتربية. ويعلن شلق أنّه اليوم مستقلّ على ثقافة واسعة، ولم يعد مناضلاً بالمعنى السابق لأنّه يدخّن السيجار، ويحبّ الأناقة والسيارات الكبيرة...

تجربة نضالية

تبدو تجربة السيّد هاني فحص نضاليّة لافتة بما فيها من مغامرات جمعته بزعماء ثوريّين أعلام مثل أبو عمار والإمام الخميني وكمال جنبلاط والإمام موسى الصدر... وإذا كان فحص من المتحوّلين في المواقف على قناعة ونزق ومغامرة حلال فلأنّه لا يرتبط كثيراً «بثوابت العقل وسكونه»، ولا يعتنق رؤيا محنّطة دينيّاً معلناً أنّ الاستقرار مقتل الثقافي». والسيّد فحص، اليوم، يرى نفسه «أقرب إلى 14 آذار»، لكنّه ليس منهم، ويُعجب بالتنظيم عند جماعة 8 آذار: «ينظّمون خبثهم وتحالفاتهم وانقلاباتهم وتنازلاتهم»...

والعلامة الفارقة بين المثقفين الذين حاورتهم عطوي هو توفيق هندي، لأنّه بدأ يساريّاً في عصر اليسار الذهبي وتحوّل يمينيّاً في الحرب الأهليّة اللبنانيّة ووصل إلى سدّة القرار السياسي في القوّات اللبنانية وسُجن... ويحدّد هندي موقعه اليوم فيجد نفسه في الخطّ السيادي الاستقلالي.

ويتشارك محمد عبد الحميد بيضون التجارب التحوّلية مع المثقّفين اللبنانيين، وقد انطلق سياسياً من منظمة العمل الاشتراكي وتأثّر بخطاب الإمام موسى الصدر فانتسب إلى حركة أمل الشيعيّة، وحاول الحفاظ على تميّز في الأداء والتفكير. غادر حركة أمل، وأمسى اليوم من مؤيّدي 14 آذار شرط أن يرى عند هذا الفريق المشروع الوطني.

لا شكّ في أنّ كتاب ثناء عطوي حوارات تحوّلت سِيَر حياة تختصر الحرب اللبنانية ومن الممكن أن يستنتَج منها العِبَر التي باستطاعتها أن تكون للبنان مشروعاً نحو بناء الدولة الحقيقيّة والتأسيس للوحدة بعيداً من الحروب ومن تبنّيها سواء أكانت محلّية أو إقليمية.