يوم كنت في كلية الطب، وذلك قبل أكثر من عشرين عاما، رغم أن الذكريات حاضرة تنبض وكأنها حصلت بالأمس، كان الطلبة من حولي، وأنا من ضمنهم بطبيعة الحال، يقعون في ثلاث فئات رئيسة.
فئة المتفوقين، وهم الجماعة الذين كانت تطلق عليهم تسميات عديدة؛ منها المناشير وقيل الأمواس وكذلك دود الكتب، في حين ذهب قوم إلى تسميتهم بالحكيكة نسبة إلى الحك، أي حك الكتب والمذكرات حكا بمعنى دراستها إلى حد تقشير أوراقها، أو الصميمة نسبة إلى الصم، أي حفظ كل ما في الكتب والمذكرات عن ظهر قلب، وغيرها من التسميات الطريفة والمتطرفة، وهي التي كنا ننتجها ونطلقها نحن- زملاءهم- من غير القادرين على مباراتهم في التفوق.والفئة المتوسطة، وهي التي كانت تسمى بـالجماعة «الماشي حالها»، أي التي كانت تنجح إما بدرجات الجيد جداً أو الجيد، وتعطي من الجهد والانتباه للدراسة ما يكفيها لتحقيق هذا المستوى لا أكثر، وهي الفئة التي كنت أنتسب إليها.والفئة الأخيرة فئة المتعثرين المترنحين، وهم الذين تساقط أغلب أفرادها تباعا كأوراق الخريف، وانتهى أكثرهم بالخروج من كلية الطب والتحويل إلى مجالات أخرى.دارت عجلة الأيام وتخرجنا من الكلية وصرنا أطباء في تخصصات شتى وعملنا في مجالات مختلفة، وإذا بي أكتشف خطأ ظن لازمني صغيراً، يوم كنت طالب طب كنت أظن أن المتفوقين منا سيكونون هم الأطباء الأكثر حظاً في النجاح والتميز من بعد التخرج، وإذا بي أكتشف أن ذلك الظن لم يكن صحيحاً أبدا.الأطباء الأكثر تميزاً وشهرة اليوم، وخصوصا من البارزين مجتمعيا وإعلاميا وأصحاب العيادات الخاصة الناجحة الشهيرة، وأولئك الذين يسعى الناس ويحرصون على استشارتهم، أتى أغلبهم من الفئة الدراسية الوسطى، أي تلك الفئة التي لم تكن خارقة التفوق، في حين أن أفراد جماعة المتفوقين انتهوا في الغالب إلى وظائف تقليدية على سلم المجال الطبي، والاستثناءات التي تقفز إلى ذاكرتي في هذا الصدد قليلة جدا، لتكون الشذوذ الذي يثبت القاعدة كما يقولون!تحليلي البسيط لهذه الظاهرة هو أن الزملاء من الفئة المتوسطة، أي جماعة «الماشي حالهم» لم يكونوا منغلقين فقط في مرحلتهم الدراسية، أي تلك المرحلة العمرية التكوينية المهمة، على عالم الكتب والدرس فقط، إنما كانت لهم آفاقهم وأنشطتهم واهتماماتهم الأخرى التي كفلت لهم تعاملا مع الناس والعالم المحيط من خارج حدود التخصص الطبي، فأكسبتهم شيئا من مهارات الاتصال والتواصل والقدرة على التعامل الإنساني العام، وذلك على درجات بطبيعة الحال، في حين أن تلك المجموعة التي كانت منغلقة بالكامل على عالم الدرس والتحصيل والكتب لم تعط لنفسها ذات الفرصة، ففاتها اكتساب الكثير من الخبرات والمهارات اللازمة للنجاح في عالم العمل، وحين تخرجت وجدت نفسها في مواجهة هذا العالم الذي يحتاج إلى أكثر بكثير من مجرد «كم كبير من المعرفة العلمية وأطنان من المعلومات الطبية» مما أوقعها في الحيرة الاجتماعية أو لنخفف الأمر فنقول عدم التميز في التواصل مع الناس!المريض بصورة عامة يرتاح في التعامل مع الطبيب الذي يجد راحة في التواصل معه، والذي يفهم شرحه لتفاصيل حالته الطبية وعلته المرضية، وذاك الذي يستطيع إظهار التعاطف النفسي والعقلي معه ومع حالته، ولا يرتاح للطبيب السيئ والضعيف على هذه المستويات حتى لو كان عبقريا في الناحية العلمية، ولهذا رأيت ولمرات عديدة كيف يأتي المرضى من أماكن بعيدة خصيصا لأجل طبيب بعينه في المستشفيات التي عملت فيها بالرغم من أن هناك من هو أعلى منه في المرتبة العلمية وأعلى درجة في السلم الطبي، وكل ذلك بسبب أن هذا الطبيب ناجح جدا في التواصل ومريح جدا في التعامل الإنساني مع مرضاه والناس عموما!هذه الفكرة تثبتها الدراسات الإدارية اليوم، حيث بينت أن من يمتلكون هذه المهارات الإنسانية، أو ما يسمى بمهارات «الذكاء الوجداني» هم أكثر نجاحا في أعمالهم وسائر حياتهم، بالمقارنة مع الذين يمتلكون المحتوى العلمي والمعرفة التقنية البحتة فقط.بمعنى آخر وفي عبارة واحدة، فلا يكفي الطبيب أن يكون «طبيبا جدا» لينجح، إنما هو بحاجة قبل ذلك أن يكون «إنسانا أكثر»، وذات الأمر ينسحب على كل مجال آخر!
مقالات
طبيب جداً... إنسان أكثر!
25-05-2014