إذا كان بوتين يعاني الكوابيس (وربما يعانيها، مَن يدري؟)، لا بد من أنها تدور راهناً حول معضلة يانوكوفيتش: التصعيد باستخدام القوة ضد المتظاهرين أو البحث عن مخرج، ولا شك في أن ما يحدث في أوكرانيا يحمل دروساً للرئيس الروسي.

Ad

لم يكن بوتين يتوقع ما يحدث في أوكرانيا بعد انتصاره الظاهري ضد اتفاق الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، لكنه بترسيخ مكانته في الكرملين على مر السنين توقع بالتأكيد الكثير من التطورات مسبقاً:

أولاً: عمّق بوتين وحسّن نوعية نظام السيطرة المركزية المعدل خصوصاً له، هذا النظام الذي حدد طريقة الحكم في روسيا منذ تولي بوتين سدة الرئاسة عام 2000، صحيح أن المنافسة داخل المجموعة الحاكمة استمرت، غير أن عملية اتخاذ القرارات باتت في يد الكرملين، وهُمِّشت الحكومة التي يرأسها (إذا كانت هذه الكلمة مناسبة) رئيس الوزراء ديميتري ميدفيديف.

ثانياً: أشرف بوتين منذ شهر مايو عام 2012 على عملية تعزيز ضخمة للأجهزة الأمنية، ووضع أسساً قانونية للقمع في روسيا، في حال احتاج إليها، لكن يانوكوفيتش تأخر في سنّه في منتصف شهر يناير قوانين شبيهة بالنموذج الروسي تقمع التظاهر والمنظمات غير الحكومية، إلا أن بوتين وأعوانه نجحوا في تخطي التظاهرات التي هزت ثقتهم في عامَي 2011 و2012، نتيجة لذلك، باتت المعارضة المنظمة اليوم في أدنى مستوياتها في روسيا.

ثالثاً: عزفت دعاية النظام الروسي على الوتر المناهض للغرب وأقنعت عدداً كبيراً من الروس بضرورة التوحد حول قائدهم في وجه مؤامرات أجنبية، حتى إن البعض ادعوا أن الاتحاد الأوروبي المسالم يحاول النيل من روسيا.

رابعاً: أنهت عودة بوتين إلى الكرملين مناقشة الإصلاحات الموالية لتحرير الأسواق، التي أُطلقت خلال عهد ميدفيديف الرئاسي، وما رافقها من انعكاسات محتملة مقلقة تعزز الليبرالية السياسية. نتيجة لذلك، عادت المشاريع الضخمة ومؤسسات الدولة والإدارة التفصيلية المركزية إلى الواجهة.

لا يُعتبر أي من هذه التطورات مفاجئاً، مع أن بعض المحللين الأجانب تمسكوا سابقاً بأمل تمتع روسيا بمقدار معين من التحرر، لكن هذه التطورات تمثل استئنافاً منطقياً لمسار وضعه بوتين منذ زمن، فقد أعرب عن مشاعره حيال التظاهرات بوضوح في تلك الفترة، وأكد في البرنامج، الذي قدمه خلال «حملته» الرئاسية الأخيرة، أن من الضروري بقاء الدور الأكبر في الاقتصاد الروسي بين يدي السلطة المركزية، ويصرّ بوتين اليوم على تطبيق برنامجه، سواء كان يشكل ضغطاً كبيراً على الموازنة أم لا.

ربما يحب بوتين التحدث عن مخاطر الثورة البرتقالية، إلا أنه في موقع يتيح له تفادي هذه المخاطر بشكل أفضل، مقارنة بيانوكوفيتش المستبد وعديم الكفاءة الذي يعاني اليوم نقصاً في المال، كذلك يتمتع الأوكرانيون بتجربة أوسع في مجال ممارسة الجرأة المدنية، مقارنة بالروس، صحيح أن نظامي كييف السياسي والاقتصادي فاسدان، حتى إنهما قد يكونان أكثر فساداً مما نراه في روسيا، إلا أنهما أكثر تنوعاً، شأنهما في ذلك شأن وسائل الإعلام الأوكرانية، وعلى يانوكوفيتش أن يمارس الكثير من الضغوط، إذا أرد استعادة السيطرة بالقوة، ولكن لا يبدو نجاحه مضموناً، خصوصاً في ظل غياب المساعدة الروسية.

إذاً، لمَ سيقض مضجع بوتين أي أوجه شبه ممكنة بين مصير يانوكوفيتش ومصيره؟ يعلن بوتين (وهذا طبيعي، أليس كذلك؟) أن الاضطرابات في أوكرانيا تعود إلى تدخل الغرب، ما يشكل سبباً إضافياً يدفع روسيا إلى حماية قيمها، ولعل هذا ما يعتقده حقاً، ولكن لا بد من أنه يدرك في أعماقه أن الاضطرابات في كييف وغيرها من الدول لا تعود إلى مناورات الغرب الناشطة، والماكرة، والمنظمة، بل إلى كره الكثير من الأوكرانيين الطريقة التي يُحكمون بها والمسؤولين عنها، إذاً، لا تُعتبر أوكرانيا ضحية صراع بين روسيا والغرب، بل ضحية طرق الحكم السيئة التي تتعرض لها.

هذا هو وجه الشبه الذي يجب أن يقلق بوتين ويذكّره بتظاهرات 2011/ 2012 في بلاده، كذلك يلزم أن يشكّل وجه الشبه هذا رادعاً يمنع المجموعة الحاكمة الروسية من القيام بأي محاولة إضافية لدعم يانوكوفيتش، وخصوصاً إذا لجأ إلى القوة، متذرعاً بأن بلده يواجه حالة طارئة، فحتى لو نجح القادة الروس في احتواء رد الفعل الروسي، وحتى لو تمكن يانوكوفيتش من إعادة فرض «النظام» بوسائل مماثلة، فمن المحتمل أن يؤدي التأثير العام إلى إحياء فيروس الحراك الاجتماعي في روسيا.

طرح بوتين مشروع الاتحاد الجمركي، الذي سيؤدي إلى تأسيس الاتحاد الأوراسي، كما لو أنه محور عهده الحالي، ولا شك في أن إخفاقه بسبب ما يحدث في أوكرانيا سيشكل ضربة قوية، ولكن من الصعب اليوم رؤية اتحاد جمركي يحقق الطموحات التي أعلنتها روسيا، بالإضافة إلى ذلك، لا يبدو تأثير هذا المشروع في الشعب الروسي كبيراً، فضلاً عن أنه سيكلّف الخزينة الروسية، إذا طُبّق، مبالغ ضخمة. وإذا نجح بوتين في ممارسة ضبط النفس، معللاً نفسه بأن أوكرانيا ستتوصل في النهاية إلى القبول بهذا الاتحاد، فمن المنطقي ألا يحاول الترويج لهذا المشروع أكثر في كييف، ولا شك في أن شركاء بوتين في أستانا (كازاخستان) ومينسك (روسيا البيضاء) لن يكونوا سعداء بالطريقة التي حاولت بها موسكو ليّ ذراع دول الاتحاد السوفياتي السابقة للانضمام إلى هذا الاتحاد.

من الضروري أن يعرف بوتين أيضاً أن المجتمع الروسي يتبدل، مع أن الرئيس الروسي أسر نفسه ضمن مسار سياسي واقتصادي يحافظ أو حتى يعمّق الطريقة العشوائية الشخصية الحالية التي تُحكم بها روسيا، على سبيل المثال، تُضعف المطالبة بقضاة مستقلين ومسؤولين يعملون في ظل قوانين واضحة ومشاركة فاعلة في الحكومة لا تقتصر على تلك الحلقة الضيقة ممن يتمتعون بامتياز الانضمام إلى الأقلية الحاكمة الحالية وأعوانها عادةَ الانتظار ريثما يتسلم السلطة قيصر طيب يفرض العدالة، بالإضافة إلى ذلك، تتراجع حظوظ روسيا الاقتصادية، ما يهدد بتقويض التفاهم الضمني الذي ساد خلال سنوات الوفرة بين عامَي 2000 و2008، والذي اعتبر اللامبالاة السياسية ثمناً مقبولاً لنمو الناتج المحلي الإجمالي السريع.

يكشف الواقع في روسيا اليوم أنه لا أحد واثق بالمستقبل الذي تسير نحوه البلاد، وأن احتمال مواجهة الركود الاقتصادية أو ربما الأسوأ أقل مما تستحقه روسيا، وأن فكرة ترشح بوتين مرة أخرى عام 2018 لا تعوّض عن ذلك الاحتمال السيئ، لكن بوتين لن يبدّل مساره، فقد بلغت مخاطر التغيير البنيوي في نظام الحكم الحالي في روسيا حدّاً كبيراً، حتى إن الرئيس بات أسير ما ابتكره هو وزملاؤه على مرّ السنوات، وعززوه منذ عودة بوتين إلى منصبه في الكرملين في مايو عام 2012.

من المؤكد أن هذه الاحتمالات السيئة والمزاج الوطني العام يحملان الكثير من المخاطر، ولكن قد تبقى هذه المخاطر مضبوطة إن استقر الوضع على ما هو عليه أو تحسّن، لكن الكثير من الروس يخشون ما يخبئه المستقبل لبلدهم، ولا شك في أن بعضهم سيتوقعون انتفاضة مماثلة في مرحلة ما، انتفاضة لا تختلف كثيراً عما تشهده أوكرانيا راهنًا، فلا تتوافر في روسيا اليوم قنوات فاعلة تمهد الطريق أمام تغيير حقيقي لما بُني في ظل عهد بوتين، إلا إذا أراد بوتين نفسه ذلك، ولكن حتى إن رضي الرئيس الروسي بالتغيير، مع أن ذلك مستبعد، فمَن يعلم إلامَ ستؤول الأمور؟

Andrew Wood