يتزايد إحساس الخليجيين بأنهم أصبحوا "أقلية" تتضاءل يوماً بعد يوم وسط طوفان بشري متدفق من دول الفائض السكاني، ودول المجاعة، ودول الربيع العربي المنكوبة أمنياً وسياسياً، أصبحت نسبة الخليجيين إلى غيرهم تتراوح في حدها الأدنى بين 10% لتصل إلى 50% في حدها الأعلى في الدول الخليجية، وهي مرشحة لانخفاض أكبر في ضوء توقعات باستيعاب أعداد أكبر من العمالة خلال العقدين القادمين.
هؤلاء الوافدون، منهم إخوة أعزاء عرب وغيرهم، أتوا يبتغون فضلاً من ربهم، وأمناً وأماناً ومعيشة كريمة لأنفسهم وأسرهم، ولكن النسبة العظمى من الوافدين، من العمالة الآسيوية، استقدمت من أجل متطلبات التطور العمراني ومشاريع البنية التحتية، هم خليط من عادات وثقافات وديانات لأكثر من 200 جنسية، تتعايش آمنة مطمئنة في الخليج، وتنتمي إلى 150 قومية وتتحدث 100 لهجة. وإذ نحمد الله تعالى على نعمه الكثيرة، ومن أهمها نعمتا النفط والغاز ومن بعدهما نعم الأمن والاستقرار والازدهار، فإن شكر النعم يستوجب البذل والمساعدة والعطاء وفتح الأبواب وتقديم يد العون من غير منّ أو تظاهر بإحسان، لكن هذا التدفق البشري الذي هو أشبه بـ"تسونامي" جنوب شرق آسيوي، وإن كانت له إيجابياته المشهودة التي يجب الإقرار بها، إلا أن له أيضاً آثاره وتداعياته السلبية الخطيرة على مختلف الأوضاع الخليجية: أمنياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. لطالما انشغل آباء ورواد التنمية الخليجية من المفكرين والكتّاب، وعلى امتداد 3 عقود بالتنبيه والتحذير من انعكاسات الخلل السكاني ونتائجه الخطرة على مجمل الأوضاع، ولطالما وجهوا أنظار المسؤولين إلى خطورة سياسة التوسع في استقدام العمالة الأجنبية، لكن المسؤولين كانوا دائماً يتذرعون بحجج متطلبات التنمية العمرانية واحتياج المشاريع الإنشائية العملاقة. لقد كانت قضية "الخلل السكاني" همّاً رئيساً في أدبيات التنمية الخليجية باستمرار، لكن الخلل ازداد وتفاقم وأصبح يشكل تحدياً كبيراً يتطلب علاجاً حكيماً من الحكومات الخليجية، صحيح أن الحكومات على وعي تام بمخاطر الاختلال السكاني، ولا شك أن هناك جهوداً تبذل وإجراءات تتخذ من أجل الحد من آثاره وتداعياته السلبية، إلا أنها غير كافية وغير جذرية. لقد كان جل مخاوف الخليجيين، حكومات وشعوباً ونخباً، من تداعيات الاختلال السكاني، مركزة على 4 أبعاد هي:1- البعد الأمني: باعتبار الخلل السكاني من مهددات الأمن الخليجي، أذكر قبل 6 سنوات أن المنطقة شهدت أضخم مظاهرات للعمالة الوافدة وأخطرها تخللها أعمال تخريبية في بعض دول المنطقة.2- البعد الثقافي: وهو الذي حظي بالاهتمام الأكبر، بسبب تأثيراته في "الهوية" و"الوحدة الوطنية" و"اللغة العربية"، وأذكر قبل عدة سنوات، أنه ساد ما يشبه "الفزعة" الوطنية على الهوية، دولة الإمارات شكلت في حينها "لجنة التركيبة السكانية" التي قدمت 66 مبادرة لتهدئة مخاوف الإماراتيين على الهوية، وكتب محمد الحمادي في الإمارات يشكو من اختفاء اللغة العربية بشكل لافت في الشارع والأماكن العامة والشركات والمؤسسات الحكومية، حتى في بيوت المواطنين والعرب المقيمين، وتوقع الكاتب عبدالله رشيد، في ظل استمرار سيل التدفق البشري للإمارات، أن يصبح المواطنون 2% في عام 2025، وصرح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بأن "مسألة التركيبة السكانية تتصدر أولويات حكومته، وأن مستقبلنا وهويتنا الوطنية مرتبطان ارتباطاً جذرياً ومصيرنا بهذه القضية".3- البعد الحقوقي الدولي: الأوضاع المعيشية السيئة للعمالة الوافدة والهامشية جعلت الدول الخليجية عرضة للمساءلة الدولية من المنظمات الحقوقية ومنظمات العمل الدولية، وأصبحت أنظار العالم مركزة على الخليج، والإعلام الغربي لا هم له إلا رصد وتضخيم ما يحصل للعمال من انتهاكات من تجار الإقامات والتأشيرات، وانتقاد ظروف العمل ومساكن العمال التي تراها غير لائقة، تطالب بنقابات للعمال ومنحهم حق التظاهر وتجنيس بعضهم على غرار ما هو حاصل عندهم.4- البعد الاقتصادي الوطني: يرى عمر الشهابي أن "التركيبة السكانية" تم توظيفها لخدمة متطلبات رؤوس الأموال المستثمرة، وأنتج ذلك أمرين: فك الاعتمادية التاريخية للدولة على الشعب، وتهميش الكادر الوطني.هذه الأبعاد الأربعة هي التي استأثرت باهتمامات أدبيات التنمية الخليجية على امتداد العقود السابقة، لكن هناك بعد آخر لا يقل أهمية لم يأخذ حظه من الاهتمام الإعلامي إلا مؤخراً، هو البعد المتعلق بـ"الجودة النوعية للحياة" أو ما يسمى بـ"تحسين نوعية الحياة" للعمالة الوافدة والهامشية بكثافتها العددية، وتزاحم المواطنين والمقيمين في المدن الخليجية، وتشكل عبئاً ثقيلاً بل مدمراً على كل المرافق والخدمات الحيوية، وتستهلك الموارد، وتشوه المنظر الحضاري للمدن الخليجية، وتجسد البؤس الإنساني، وتتسبب في تردي جودة الحياة لدى الخليجيين، مدننا اليوم تشكو من اكتظاظ رهيب، وخليط بشري متنافر يزاحم بعضه بعضاً في رقعة من الأرض ضيقة، واختناق مروري يصاحبه ارتفاع في نسب التلوث والضوضاء وإهدار الوقت والطاقة والجهد. ضغوط هائلة على الخدمات المختلفة وبخاصة الخدمات الصحية تجعل المواطنين ينتظرون طويلاً للحصول على سرير في مستشفى، إضافة إلى مزاحمة العمالة الوافدة للعائلات في الفرجان، كلها عوامل ضاغطة على الأعصاب والأنفس، ولدت سلوكيات غير مستحبة وردات فعل غير حميدة، وأشعرت المواطن بالاغتراب، وكانت نتائجها، التضحية بجودة الحياة الخليجية، وتشتيت الجهود المبذولة من أجل تحسين نوعية الحياة. الكاتب جمال خاشقجي، أكثر من كتب حول علاقة التزايد السكاني بتردي جودة الحياة، كتب يقول "من يقنع المسؤولين بأن النهضة، هي في تحقيق– نوعية حياة أفضل– وهذا لا يكون بمدن أكثر اتساعاً، وأعلى بنياناً، إنما بمدن أنيقة مكتفية بسكانها الأصليين ومواردها الطبيعية، سعيدة بحياتها، وأقل ازدحاماً في طرقاتها".ترى: ما الحل؟ بطبيعة الحال لا أملك حلولاً جذرية لهذه القضية المزمنة، ولست ضد استقدام العمالة الوافدة بقدر احتياجات ومتطلبات التنمية، لكني أرى ضرورة المعاملة الإنسانية لهؤلاء وتحسين ظروف عملهم وإسكانهم في مساكن لائقة، كذلك أرى ضرورة بناء مدن عمالية ذات جودة عالية، وإسكانهم هناك بعيداً عن المدن.* كاتب قطري
مقالات
التركيبة السكانية والجودة النوعية للحياة
07-04-2014