الكاتب ألبرتو مانغويل مشهور بكتبه التي تتعلق بالقراءة وطقوسها وناسها واقتناء الكتب والمكتبات، والتي تشجع الآخرين على شغف القراءة وتفاصيل تتعلق بها. في كتابه «المكتبة في الليل»، خصّ مانغويل المكتبة الوطنية اللبنانية بفصل وكان زار بيروت سابقاً في جولة على مكتبات عالمية، ولم يخف حزنه على واقع الكتب في لبنان، قائلاً: «زيارة الكتب اللبنانية تجربة تبعث على الحزن. من الواضح أن لبنان ما زال بحاجة إلى كثير من المساعدات ليطهّر ويرمم ويفهرس المجموعة ويضعها في مكانها المعتاد. تكديس هذه الأعمال في غرف حديثة في مبنى للجمارك قريب جداً إلى البحر، يجعلها عرضة للرطوبة. حفنة من العاملين والمتطوعين يعملون ببطء بين أكداس المطبوعات ويضعون الكتب في صناديق، وثمة خبير يقرر أياً منها يستحق الترميم وما يجب أن يتلف». وربما يكون مانغويل انتبه أكثر من اللبنانيين إلى المكتبة الوطنية في بيروت التي ما زالت في طور الترميم بمنحة من دولة قطر، وهو العاشق إلى حد الثمالة للكتب والقراءة ويعتبرها «ضرورية للحياة كالتنفّس. ويضيف أن {تاريخ القراءة الحقيقي هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة}.

Ad

سر الكتاب

{المكتبة في الليل} كتاب يتحدث عن سر علاقة الإنسان بالكتاب والقراءة، وفي هذا السياق يتساءل الكاتب في المقدمة: {لماذا يمضي الإنسان في حشد كل قصائد ورق من المعلومات التي يمكن له جمعها في لفائف وكتب وأقراص كومبيوتر، في رف بعد رف من المكتبة؟}. وللإجابة عن هذا التساؤل قرر مانغويل أن يبدأ الكتاب، لا كي يصنف تاريخاً آخر للمكتبات، أو يضيف مجلداً آخر إلى المجموعة الواسعة في علم  المكتبات، بل كي يسجل لنا وقائع أثارت دهشته ومشاعره.

لا يكتب مانغويل عن الكتب والقراءة فقط، بل يهتم أكثر بحب المكتبات  ككيانات، يقول: {كانت المكتبات، تبدو لي دائماً أمكنة مجنونة على نحو ممتع، وبقدر ما تسعفني الذاكرة كنت مفتوناً بمنطقها الشائك، الذي يفيد بأن العقل، يحكم الترتيب المتنافر للكتب}. ويروي متعة المغامرة حين يجد نفسه وسط أكداس الكتب، {مؤمناً بشكل خرافي بأن الهرمية الراسخة للحروف والأرقام ستقودني ذات يوم إلى غاية موعودة... في ظل هذا الوهم المتناغم، أمضيت نصف قرن بجمع الكتب. وبكرم لا حد له، قدمت لي كتبي كل أنواع الإشراقات، دون أن تسأل شيئاً بالمقابل}. فهو يبحث في سر شهوة الإنسان للقراءة التي قد لا تقود إلى المعرفة والتي تتمظهر على شكل هواية جمع الكتب وترتيبها في رفوف وصفوف.  

رحلة طويلة

لأجل تدوين علاقته بالكتب، قام هذا المؤلف الذي يتحدّث ويكتب بلغات عدة، برحلة طويلة وشاقة وباقتفاء آثار {النصوص المكتوبة والمقروءة والمطبوعة} عَبْر مختلف العصور التاريخية: بَحَث عنها في كثير من مكتبات العالم، العامة والخاصة، وجعل للكتب قصصها التي لا ينتهي، وجعل للقراءة حكايتها التي تشبه الكتب وقدمها في كتابه {تاريخ الكتب}. يتذكّر الكلمة الأولى التي قرأها، ويتحدّث عن شغفه الكبير بالقراءة منذ نعومة أظفاره، ويروي قصّة علاقته بالشاعر الأرجنتيني بورخيس الذي كان يقرأ عليه في بوينس آيرس مدّة عامين كاملين يوماً بعد يوم. ثم ينتقل إلى بدايات الكتابة وإلى فنّ طباعة الكتب والأدب وشكل الكتاب، وإلى فعل القراءة وسلطانها. كان بورخيس يولي أهمية قصوى لمسألة التلقي، مستشهداً بفكرة لبيركلي تقول: {إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، فالتفاحة بذاتها لا طعم لها، وليس الطعم في فم من يأكلها، وإنما هو في التواصل بين الاثنين}. والشيء نفسه، كما يرى بورخيس، يحدث مع الكتب {فالكتاب هو شيء مادي في عالم أشياء مادية. إنه مجموعة رموز ميتة. وعندما يأتي القارئ المناسب، تظهر الكلمات إلى الحياة... ونشهد، عندئذ، انبعاثاً للعالم}.

نخبة

يقدّم مانغويل نخبة من الكبار الذين كانوا يكتبون ويحبون القراءة مثل أرسطو، لوفكرافت، ابن الهيثم، أولفر ساك، ماريا المجدلية، القديس أوغسطينُس، وريلكه الذي كان يقول: {إن العالم وجد كي يوضع في كتاب جميل}. ويحدّثنا عن قصّة الأمير الفارسي الذي كان يصطحب مكتبته المؤلّفة من 117000 كتاب على ظهر قافلة من الجمال مصنّفة بحسب الأحرف الأبجدية. ولا ينسى أيضاً حكاية أكبر سارق للكتب في العالم، الدوق ليبري، أو قصّة عمال التبغ في كوبا الذين كانوا يحبون الاستماع إلى قراءة الكتب مما جعلهم يطلقون أسماء أبطال الروايات الأدبية على أنواع سيجارهم. يقسم مانغويل كتابه {تاريخ القراءة} الى فصلين رئيسين، الأول بعنوان {فعل القراءة} والثاني بعنوان {سلطان القارئ} وبينهما يأخذنا في رحلته عبر مجاهل الكتاب والقراءة والقارئ والكتابة، كيف نفهم الكتابة وكيف تقرأ عيوننا الكلمات المدوّنة على الصفحات، وهنا يشير الكاتب إلى أن البروفسور أندريه روش لكور توصل، تماشياً مع نظرية ابن الهيثم، الى ان عملية القراءة تشمل على الأقل مرحلتين: رؤية الكلمة ومن ثم معالجتها وفق قواعد تعلمها الانسان.

يعتبر مانغويل أن القراءة اعطته عذراً لعزلته، يقول «أنا أعرف تماماً أنّ شيئاً ما يموت في داخلي عندما أستغني عن كتبي، وأن ذكرياتي تعود إليها دوماً وأبداً وتصيبني بحنين مؤلم للغاية»، يضيف: «نظرة واحدة إلى الكتب التي نعتبرها ملكنا والتي تملأ رفوف مكتباتنا طائعة والمخصصة لتكون تحت تصرفنا فقط تعطينا حق القول: «إن كل هذه الكتب هي ملكي، إن مجرد وجودها يبدو وكأنه يغدق علينا الحكمة حتى دون قراءتهاّ».