عندما يولد لديك طفل عنيد فأنت تعاني الأمرّين لتعلمه الطاعة ولترضخه لأوامرك ونواهيك، أنا كنت واحدة من هؤلاء الأطفال العنيدين، لكن لم يكن عنادي باتجاه كسر القوانين التي يضعها الأهل إنما كنت على اعتقاد أنهم يريدون رسم خريطة عقلي على طريقتهم، فلم أحب هذا لأنني عرفت أنه في يوم عندما سأقابل رباً كريماً سيسألني عما فعلت بهذا العقل الذي منحني إياه؟ هل أعطيته لغيري ليفكر لي به؟ أم استعملته حق استعماله؟ على الأقل عندما سأحاسب لن أكون كالمغفلين الذين منحوا عقولهم لغيرهم ليفعلوا بها ما يشاؤون ثم يعودوا يبكون سوء الاستعمال.

Ad

هناك أشياء لم أستطع تصديقها حتى عندما سردها الكبار على مسامعي، كنت حينها طفلة صغيرة يمكن أن تصدّق أي شيء يقال، لكني لم أصدّق حكايات أحد، لم أصدّق كيف أن الإنسان يجب أن يمشي كالأعمى مغمض العينين وأحدهم يسرد عليه قصصاً وحكايات ربما حدثت وربما لم تحدث، فتاريخنا مشوه وحكاياتنا مملوءة بالأبطال الورقيين والكذب.

لم يعجب الكثيرون من الكبار في مجتمعي الصغير هذا العناد والتكذيب لقصصهم الخرافية، ولم يهمني بصراحة ما يفكرون به...

كبرت وقرأت وتعلمت ومازلت أقرأ وأتعلم كل يوم أننا يجب ألا نصدق غير قلوبنا، فهي أصدق من غيرها في رؤية الطريق إلى الحق، إنه نور من الله وضعه في صدورنا كي نرى ما لا يمكن رؤيته بالعين والعقل، وقد قالها الله تعالى في كتابه المجيد "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ".

قرأت التاريخ فوجدت من كتّابه إما المحب لهذا الطرف فأمعن في التبجيل والنفخ في أبطاله حتى وضعهم في مصاف النجوم والقديسين والأبطال، وهم في حقيقتهم غير موجودين إلا في مخيلته أو كانوا من ملته أو طائفته أو عشيرته، وإما الكاره لهم فوضع أدواته للطعن فيهم وفي أعمالهم حتى أوغل قلوب العباد عليهم، وكرّه الناس بهم لأنه كرههم فقط، ولم يسيروا على هوى قلبه. لم أجد أحداً لأصدقه، تقرأ التاريخ وكأنك تقرأ معركة بين اثنين من الكتّاب لا هذا أوفى بحق هذا، ولا صمت ورحم الناس من شره.

فكنت على حق إذاً، أنا لا أصدق التاريخ وليغضب من يغضب لأن كتبنا ما هي إلا إملاءات من أحد على أحد، لم يكتبها الأحرار بل كتبها العبيد، وأنا لا أصدق كتابة عبد لأحد أو لنزوة أحد أو لكره أحد أو حب أحد، فكلهم في العبودية سواء.

لم أصدق أغلب ما يقال عن التدين والمتدينين، كنت أرى تناقضاتهم في بيوتهم وخارجها، في كتاباتهم في كلماتهم وتصرفاتهم، بعضهم يظهر عكس ما يكتم، فكرهت ما يفعله أغلب الناس من تقديس الناس وتعظيمهم ووضعهم في مصاف اللاكلام عنهم، لا تقتربوا منهم هؤلاء معصومون من الخطأ، لا يخطئون ولا يقولون غير الحق، لم يذكر الله تعالى أن أحداً معصوم من الخطأ، بل "كل ابن آدم  خطاء"، لماذا عليّ أن أصدق أنهم ملائكة؟

 لم تعجبني الفكرة وبحثت عنهم فوجدتهم أناساً أقل من عاديين يخطئون أكثر من الجميع، لكن التستر وراء العمامة واللحية ينقذهم ويطهرهم أمام الناس، بل يجعل أعمالهم الخاطئة أحياناً عملا بأوامر الله ونواهيه، هذا كله لأننا أعطينا هذا العقل إجازة طويلة، فهو عقل جميل جديد حتى لو بلغنا مئة عام من العمر، فلا يزال هذا المخ "استعمال خفيف جداً... يا دوب تعلم القراءة والكتابة وكم آية وصلاة مكررة ومشاكل وهموم"... وكنت على حق بأنني لم أسمعهم ولم أصدقهم.

ولم تعجبني فكرة الرضا بالمقسوم عبادة كما يقول أغلب الناس، فكانت دعوة خالصة للفقراء ولا أدري من أخرج لهم هذا القول بأنهم يجب أن يرضوا بالفتات الذي يلقى لهم ثم يقولون رضا، لم يقرؤوا قوله تعالى "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"، وأصبح طلب الرزق فقط على ما يسد الرمق، وأصبح الفقراء "أكثر من الهمّ على القلب" والأغنياء هم القلة التي تتفضل وترمي الفتات للفقراء الراضين بالمقسوم... وكنت على حق.

هناك أشخاص تجدهم متذمرين حانقين، وكنت أنا منهم، هم ليسوا متذمرين بل هم عاجزون أن يغيروا أشياء كثيرة في هذه الحياة، يرون أحداثاً ليس من المفترض حدوثها، بل حدوثها يعتبر جريمة بحق الناس والقانون والعرف والدين، تتحول إلى واقع يجب أن نرضى به. توقفت عن التذمر وتوقفت أن أقول لفلان إنك مخطئ فلم يعد هناك أناس تسمع، البعض أغلق آذانه والأغلب سلم عقله وقلبه، وأصبحوا كالزومبي في الأفلام الأجنبية يسيرون على غير علم ومنطق... لأنني كنت على حق.