كنت فرغت بالأمس من قراءة رواية دان براون الأخيرة التي أسماها "الجحيم"، وهي رواية ضخمة كعادة رواياته حيث امتدت على أكثر من 400 صفحة بخط صغير، فغردت بعدها في "تويتر" بأنها رواية ماتعة وأنها قد راقت لي، لكن الظاهر أن تغريدتي لم ترق في المقابل لبعض الزملاء فغرد أحدهم بأن روايات براون ليست سوى نسخ مطورة من روايات المراهقين البوليسية، وعلق آخر بأنها من طراز روايات الجمهور عاوز كده. ويبدو لي أن الجو قد أعجب صديقي المفضل الأديب الجميل طالب الرفاعي فغرد من ناحيته قائلا: بأن دان براون أعجز من أن يجد له مقعداً بين كتّاب العالم المبدعين، وشتان بين من يهز وجدان جمهور بما يعينه على الحياة ومن يخدره.
وأعترف بأن آراء الزملاء قد استفزتني، لكنني لم أنجرف مع موجة إغراء الرد لأني أعرف من واقع التجارب العديدة أن "تويتر" منصة بارودية جاهزة للاشتعال بنيران الردود، دون أن يكون هناك أمل في الغالب لاقتناع أي طرف بوجهة نظر الآخر، حيث يؤخذ الجميع بحماس وعزة المناظرة التي ستجري أمام جمهور "الفولورز" المتابع وربما على وقع تشجيعهم، ناهيك عن أن "تويتر" عموماً، في هذا الموضوع وغيره، ليس بالمكان المناسب للتفصيل، فتغريدات المئة وأربعين حرفا لم تجعل لمثل هذا، لكنني الآن سأبسط وجهة نظري. الروايات بأنواعها المختلفة هي عندي كالفاكهة المنوعة، فهي ليست جميعا من نوع واحد من الفاكهة حتى نقول مثلا إن هذه برتقالة جيدة وتلك سيئة، ولكن فيها البرتقال والعنب والتفاح والفراولة وغيرها، ووفقاً لذلك لا يصح أن تقارن البرتقالة بالتفاحة ولا التفاحة بالفراولة، إنما يقارن البرتقال بالبرتقال والتفاح بالتفاح وهكذا فيكون فيها الجيد وما دون ذلك. الروايات الكلاسيكية كروايات شكسبير مثلا هي نوع من الفاكهة، والروايات اللاتينية كروايات ماركيز هي نوع من الفاكهة، بل إن روايات اللاتينية إيزابيل أليندي هي نوع مختلف من الفاكهة، وروايات اللاتيني باولو كويللو هي نوع آخر من الفاكهة، والروايات اليابانية هي نوع مختلف من الفاكهة، والروايات العربية نوع بل لعلها أنواع مختلفة من الفاكهة، وعليه فإن روايات دان براون بدورها هي نوع مختلف أيضا من الفاكهة. ومع ذلك فلا يعنيني كثيراً، ولا أظنه يفيد القارئ، تصنيف أنواع الروايات ومماثلتها ببعضها بعضاً، بقدر فائدة أن ينظر إلى كل رواية على حدة من زاوية فرادة وجدة أسلوبها وطريقة نسجها للقصة، ولما أضافته له ولما تركته في داخله، ولمقدار المتعة والسعادة المتحصلة من بعد قراءتها، ولا شيء يمكن له إعانة الإنسان على الحياة والتخلص من ضغوطها اليومية مثل الاستمتاع بممارسة شيء يحبه الإنسان كالقراءة ونحو ذلك. وهذه النقطة بالذات ستعيدني إلى الحديث عن روايات دان براون تحديدا. ليس محقا من يقول إن هذه روايات براون ليست سوى روايات بوليسية مطورة، فرواية الجحيم على سبيل المثال تدور حول فكرة علمية فلسفية ثقيلة، وهي احتمالية أن التطور الذي صنعه الإنسان بنفسه سيقوده إلى حتفه وهلاكه، مثيرة في موازاة ذلك تساؤلا في غاية الكثافة والحدة وهو: هل يجب على الإنسان أن يحد من تناسله كي لا يستهلك موارد الأرض فينتهي به الأمر إلى الانقراض، تماما كأرانب تركت تتناسل في جزيرة نائية حتى أتت على كل النظام البيئي ثم انقرضت؟!رواية الجحيم، وأغلب روايات براون السابقة وبالأخص شيفرة دافينشي، وملائكة وشياطين، والرمز المفقود، حوت داخلها كماً مذهلاً من المعلومات العلمية والثقافية العامة، والتي لم تكن لتتحصل لأي كاتب دون بذله لجهد بحثي منهك خارق طويل الأمد، ودون أن تتطلب منه التنقل مكانيا لمسافات طويلة في الزمان والمكان لمعاينة ودراسة المواقع التي اختارها مسرحا لشخوصه وقصته. رواية الجحيم تدور أحداثها ما بين مدينتي البندقية وفلورنسا في إيطاليا ومدينة إسطنبول في تركيا، بوصف دقيق واستثنائي للمواقع الأثرية والشوارع والأزقة، وهو الأمر الذي لا أشك في أنه سيزيد التدفق السياحي باتجاه هذه الأماكن الساحرة الخلابة الجذابة أصلا، مما جعلني، وقد كنت زرت بعضها سابقا، أرغب في العودة لزيارتها مجددا. هذا الجهد المبذول وتلك القيمة العلمية والثقافية والتساؤلات الفلسفية العميقة، على الرغم من بساطة الأسلوب الكتابي وعدم تلوين المفردات ودون اللعب على السلم الموسيقي للغة، يرتقي كثيرا بروايات براون عن مرتبة الروايات البوليسية التقليدية أو المطورة على حد تعبير الزميل المغرد.خلاصة رسالتي هو أنه مهما كان نوع الفاكهة التي تنتمي إليها هذه الرواية أو تلك، ومهما اختلف أسلوبها وطريقة نسجها، حتى إن قيل بأنها لا تطرح أيا من الأسئلة الإنسانية الكبرى التي يجدها البعض مثلا في روايات ماركيز أو كونديرا أو ساراماغو، فإنها تظل قادرة على أن تحرك وعيا وتضيف ثقافة وتشعل مشاعل التساؤلات وتضيء أنوار التفكير في عقل ووجدان القراء باختلاف ذائقاتهم واهتماماتهم، لتصنع منهم أناسا أفضل وأجمل، والذي هو منتهى الغاية من قراءة أي أدب في رأيي!
مقالات
الجحيم!
27-10-2013