الواقع المشوّه بنظر بوتين

نشر في 25-03-2014
آخر تحديث 25-03-2014 | 00:01
 واشنطن بوست حتى أوباما لم يعد موثوقاً به أكثر من أسلافه: هذا الرئيس التقدمي الحيوي الذي وصل إلى سدة الرئاسة مع وعود بـ«إعادة ضبط» العلاقات الثنائية تنكّر للعبة الحرب الباردة وسعى إلى عقد معاهدات حول الأسلحة النووية وأحبط خطة الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية وتواصل مع إيران.

يلتزم ضباط الاستخبارات بعقيدة قديمة: عند بروز أبسط الشكوك، لا تعترفوا بشيء بل أنكروا كل شيء وأطلقوا اتهامات مضادة.

من هذا المنطلق وبهذه العقلية تحديداً خاطب فلاديمير بوتين، العميل السابق في الاستخبارات السوفياتية وحاكم روسيا الراهن، بلده والعالم يوم الثلاثاء الماضي وتطرق إلى ضم شبه جزيرة القرم.

بدأ الخطاب بكذبة فاضحة ("حصل استفتاء في شبه جزيرة القرم في 16 مارس بما يتوافق مع الإجراءات الديمقراطية والمعايير الدولية") ثم استمر على هذا النحو لأكثر من 40 دقيقة مطولة.

طرح بوتين حجة قانونية وتاريخية واهية ومعقدة من الناحية المنطقية (وقد كانت نافرة بالنسبة إلى الجميع باستثناء القوميين الروس كأولئك الذين تجمعوا في الكرملين للتصفيق له) لدرجة أن الخطاب بدا وكأنه لا يهدف إلى دحض الحجج المضادة بل إلى دفنها تحت سيل من العبارات البلاغية.

اعترف بوتين بأن التتار في شبه جزيرة القرم "عومِلوا بطريقة غير منصفة" في حقبة الاتحاد السوفياتي، لكن كان هذا التعبير هينا وهشاً لوصف حملات الطرد الجماعي التي قادها ستالين ضد التتار نحو آسيا الوسطى. لكن قال بوتين إن الجميع واجهوا المعاناة في تلك السنوات "وعلى رأسهم الروس"، لذا يتعاطف بوتين مع ألم التتار ويمكن أن يثقوا به حين يقول إن حقوقهم أصبحت آمنة الآن.

بعد بضع عبارات لاحقة، تأسف بوتين بسبب انهيار هذه الإمبراطورية وادعى أن الروس عانوا أكثر من أي شعب آخر بما أن ذلك الانهيار جعلهم "من أكبر، لا بل أكبر، الجماعات الإثنية التي تفصل بينها الحدود في العالم".

ثم توجه إلى الأوكرانيين قائلاً: "لا تصدقوا الأشخاص الذين يريدونكم أن تخافوا من الروس على اعتبار أن مناطق أخرى ستحذو حذو شبه جزيرة القرم وتنضم إلى روسيا".

لكنه ألمح أيضاً إلى أن "الضم القسري" للروس وفق مزاعم الدولة الأوكرانية بعد الحقبة السوفياتية شكك في شرعية الحدود الأوكرانية لأن البلاشفة رسموها من دون مراعاة السكان الروس في المناطق الشرقية، كما ذكر أن "سلامة الأراضي الأوكرانية تتعلق بحرص كييف على حماية كامل حقوق السكان الروس".

صرّح بوتين بأنه يتعاطف مع المحتجين في ساحة "ميدان" في كييف ويتفهم استياءهم من الفساد والفقر، لكنه يغفل بذلك عن حملته الخاصة لقمع الروس الذين يجرؤون على الاحتجاج على حكمه الفاسد.

جاهر بوتين بحق "سكان شبه جزيرة القرم بتقرير مصيرهم" كما يذكر الأميركيون في وثيقة إعلان استقلالهم لعام 1776 وكما انفصلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي في عام 1991. لكن سيؤدي تطبيق هذا المبدأ على جميع الحالات إلى انفصال جمهوريتين روسيتين على الأقل (الشيشان وداغستان) بعد أن سحق بوتين طموحاتهما الوطنية من دون تردد.

اعتبر بوتين أنه لم يصدّق بأن عاصمة أوروبية مثل بلغراد في صربيا الموالية لروسيا يمكن أن تتعرض لهجوم صاروخي من حلف الأطلسي خلال بضعة أسابيع من عام 1999. لكن يبدو أنه أغفل الأحداث التي مهدت لما حصل ولم يعتبرها غريبة بالقدر نفسه: عمد نظام بلغراد إلى قصف عاصمة أخرى ومحاصرتها، وهي سراييفو، بدعم ضمني من روسيا قبل سبع سنوات.

لكن كان المنطق الفاضح الذي استعمله بوتين بشأن ألمانيا الأسوأ على الإطلاق. قال بوتين إن الألمان، من بين جميع الشعوب، "سيفهمونه أيضاً". على عكس بريطانيا وفرنسا، دعم الاتحاد السوفياتي في عهد ميخائيل غورباتشيف إعادة توحيد ألمانيا سريعاً بعد سقوط جدار برلين. لذا قال إن "المواطنين الألمان سيدعمون طموحات الروس باستعادة روسيا التاريخية لإعادة توحيد البلد".

لا شك أن الاتحاد السوفياتي كان مسؤولاً بنسبة كبيرة عن تقسيم ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وعن نشوء ذلك الجدار المشين الذي جعل المستشارة الراهنة أنجيلا ميركل عالقة في ألمانيا الشرقية خلال معظم فترات حياتها.

أكبر مشكلة في هذه القصة هي أنّ بوتين ربما يصدّق ما يقوله فعلاً.

حملت الظروف المحيطة بذلك الخطاب دلالات كثيرة، وكان الموقع أشبه بصالة أوبرا: إنها قاعة سانت جورج الضخمة والمطلية بالذهب في الكرملين. كان أداء بوتين قوياً لكن بدا في بعض اللحظات وكأنّ شيئاً كان عالقاً في حلقه.

بعد فترة قصيرة من التوجه إلى كبار الشخصيات في الكرملين، وقف بوتين أمام حشد أكبر في الساحة الحمراء حيث اختتم ملاحظاته القصيرة بصرخة "تحيا روسيا!".

اعتبر بوتين يوم الثلاثاء أن جميع الرؤساء الأميركيين، من جمهوريين وديمقراطيين، هم ورثة سياسة غربية قديمة (تعود إلى القرن الثامن عشر) وهي تهدف في الأساس إلى "إزاحتنا من الطريق لأننا نتمسك بموقف مستقل".

حتى باراك أوباما لم يعد موثوقاً به أكثر من أسلافه: هذا الرئيس التقدمي الحيوي الذي وصل إلى سدة الرئاسة مع وعود بـ"إعادة ضبط" العلاقات الثنائية تنكّر للعبة الحرب الباردة وسعى إلى عقد معاهدات حول الأسلحة النووية، وأحبط خطة الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية وتواصل مع إيران.

يمكن أن يلقي أوباما المحاضرات على مسامع بوتين كونه على "الجانب الخاطئ من التاريخ"، لكنّ بوتين لا يهتم بذلك ولن يفعل يوماً، فهو يملك تفسيره الخاص عن الماضي وهو يشعر بظلم قوي بما يكفي لتحويل خارطة أوروبا.

back to top