خلال السنوات الست الماضية كانت البنوك المركزية العالمية عبارة عن أوركسترا تعزف المعزوفة نفسها إلى حد كبير، حين كانت تدعم الأنظمة المالية وتطبع الأموال لمساندة الاقتصاد في بلدانها، لكنها الآن بدأت بالعزف المنفرد.

Ad

ومن الممكن أن تعمل بيانات التضخم الضعيفة في منطقة اليورو، التي صدرت أمس الأول، على إشعال فتيل توقعات بمزيد من إجراءات التحفيز من البنك المركزي الأوروبي.

وفي غضون ذلك، أطلق بنك اليابان تلميحات قوية بأنه إذا لم تتمكن برامجه النشطة في شراء الأصول (أو ما يعرف بالتسهيل الكمي) من جرجرة الاقتصاد الياباني خارج منطقة الانكماش، فإنه سيصعِّد من إجراءاته.

لكن لأن الاقتصاد الأميركي يمر الآن بمرحلة من التحسن، يسعى الاحتياطي الفدرالي إلى الانسحاب التدريجي من برنامجه الخاص بالتسهيل الكمي. وفي بنك إنكلترا يجري الحديث الآن حول رفع أسعار الفائدة، ربما بحلول نهاية السنة المقبلة.

 

تنافر مدمر

 

هذا التباعد يهدد بإيجاد جو من التنافر المدمر – خصوصاً في أسواق العملات. ولأن أسعار الفائدة عند مستويات متدنية للغاية، فإن هذا سيمتحن أكثر من ذي قبل مهارات التواصل لدى مسؤولي البنوك المركزية للتعبير عن نواياهم للمستثمرين على المستوى العالمي. ونظرا لعدم وجود سوابق تاريخية للإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية، أصبح هناك خطر بأن تكون المسيرة حافلة بالاضطراب والتقلبات.

ويقول مارك كليف، كبير الاقتصاديين في بنك آي إن جي، في معرض إشارته إلى القرار المفاجئ للاحتياطي اليدرالي في سبتمبر، القاضي بالتراجع عن بدء الانسحاب التدريجي من برنامج التحفيز: "هذا التباعد يُعَقِّد عوامل اللبس التي لا بد لها أن تحيط بالاستخدام النشط لسياسات غير مسبوقة. من المرجح أن تكون هناك محاولات فاشلة في البداية – كما رأينا في الولايات المتحدة. ليس هناك إجماع حول كيفية عمل هذه السياسات، أو حتى إن كانت ناجحة أصلاً. بالمعنى الحقيقي، البنوك المركزية تخترع هذه الإجراءات أثناء مسيرتها نحو الحلول".

وبحسب جوليان كالو، محلل الاقتصاد الدولي في باركليز: "هناك قدر كبير من مشاعر اللبس يرتبط بالأثر الاقتصادي، وبالتالي المعايرة، لهذه الإجراءات غير التقليدية، أكثر مما ترغب البنوك المركزية عموماً بالتصريح به".

 

انسحاب تدريجي

 

ومع إشارته إلى وجود علامات متزايدة على مخاوف من الأثر المحتمل عبر الحدود، الذي يمكن أن ينتج عن التغيرات في السياسة النقدية على البلدان المتقدمة الأخرى، حذر البنك المركزي الأوروبي في الأسبوع الماضي من أن حديث الاحتياطي الفدرالي عن الانسحاب التدريجي يشكل خطرا على الاستقرار المالي في منطقة اليورو.

ومن الممكن أن تبدأ بعض البنوك المركزية في البلدان المتقدمة الأصغر برفع أسعار الفائدة في وقت مبكر من السنة المقبلة ـ يتوقع أن تكون نيوزيلندا في طليعة هذه البلدان. وتقول جين فولي، وهي محللة استراتيجية للعملات الأجنبية في رابو بانك: "حين تبدأ تلك الأنباء فعلاً بالوصول إلينا، ستكون مهمة تماماً بالنسبة للعملات الأجنبية".

وما يبرز كيف تصرفت البنوك بانسجام معاً، هو أن ميزانياتها العمومية توسعت بصورة هائلة منذ انهيار بنك ليمان براذرز الاستثماري في أواخر عام 2008. وفي حين أن الاحتياطي الفدرالي احتل العناوين الرئيسة وتسبب في تقلبات عنيفة في الأسواق بمجرد ذكر إمكانية الانسحاب التدريجي من برنامجه لشراء ما قيمته 85 مليار دولار من السندات شهرياً، إلا أن ميزانيته توسعت منذ مطلع العالم الحالي بواقع تريليون دولار لتصل إلى 3.6 تريليونات دولار.

وفي الفترة الأخيرة تقلصت ميزانية البنك المركزي الأوروبي أكثر من الخُمس لتتراجع إلى 2.94 تريليون يورو، في الوقت الذي سددت فيه البنوك أموالا اقترضتها عن طريق عمليات إعادة تمويل طويلة لأجل ثلاث سنوات.

 

التحكم في التوقعات

 

لكن إدارة البنوك المركزية لا تتعلق فقط بطبع الأموال، بل تتعلق أيضاً بإيجاد الجو العام والتحكم في التوقعات. ويتخذ كل من البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان ـ باستخدام اللغة المعهودة للبنوك المركزية ـ موقفاً حازماً "متحيزاً إلى الأدنى".

واضطر صناع السياسة في البنك المركزي الأوروبي إلى أن يكون لهم رد فعل على حالات التباين الواضحة في الأداء الاقتصادي. فالنمو الضعيف في منطقة اليورو صاحبه معدل بطالة مرتفع يبين، على خلاف الولايات المتحدة، وجود علامات قليلة على التراجع، بينما التضخم أدنى كثيراً من الرقم الذي يستهدفه البنك المركزي الأوروبي، الساعي لأن يكون المعدل السنوي "أدنى ولكن قريباً" من 2 في المئة.

وهذا العام لا يعتبر سجل البنوك المركزية جيداً من حيث إحداث التحولات في السياسة النقدية بصورة سلسة.

والإشارات المبدئية حول الانسحاب التدريجي من رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، بن برنانكي، في مايو الماضي دفعت بأسعار الفائدة في الأسواق الأميركية إلى أعلى بصورة حادة وأوجدت مستويات من التقلب لم تشهدها الأسواق منذ سنتين.

ويقول كين واتريه، الاقتصادي المختص بالشؤون الأوروبية في بنك بي إن بي باريبا: "ارتفاع التقلب سيكون سمة لعالم ما بعد التسهيل الكمي من الاحتياطي الفدرالي. لكن مشكلة الخروج من الإجراءات الاستثنائية في السياسة النقدية هي على الأرجح مصدر قلق أكبر من التعقيدات المرتبطة بتوجه البنوك المركزية في اتجاهات متعاكسة حين يتعلق الأمر بمشتريات الأصول".

وعلى الرغم من حديث الانسحاب التدريجي في الولايات المتحدة، تظل أسعار الفائدة في السوق في منطقة اليورو مستقرة نسبياً.

وانفصل الاقتران بين العوائد على السندات الحكومية الألمانية، التي كانت من الناحية التاريخية مرتبطة بصورة قوية بعوائد سندات الخزانة الأميركية. وحتى حين يبدأ الاحتياطي الفدرالي الانسحاب التدريجي بالفعل، ستظل السياسات تقدم كل مساعدة عبر البلدان المتقدمة، كما يقول بيتر أوبنهايمر، كبير المحللين الاستراتيجيين للأسهم العالمية في جولدمان ساكس. ويضيف: "الرسالة الأرحب هي أن السياسة النقدية ستظل متعاونة للغاية".

لكن البنك المركزي الأوروبي سيكون قلقاً من أجل ضمان ألا تؤدي إجراءات الاحتياطي الفدرالي إلى تشديد ظروف السياسة النقدية في منطقة اليورو قبل الأوان، بأن تدفع تكاليف الاقتراض في البلدان الضعيفة اقتصادياً في المنطقة إلى أعلى.

ويجادل ستيفين ديو، رئيس قسم تخصيص الأصول العالمية في يو بي إس، بأن التباعد في سياسات البنوك المركزية "يعد علامة جيدة إلى الحد الذي يخبرنا فيه أن الاقتصاد الأميركي يعود الآن إلى وضع شبيه بالوضع الطبيعي".

ويقول: "نحن نمر دائماً بهذا الطور حين تبدأ الولايات المتحدة بالانتعاش ويكون الأوروبيون لايزالون يتعاملون بسياسة نقدية ميسرة. لكن ستكون هناك زيادة في عدم الاستقرار أثناء المرحلة الانتقالية".

(فايننشال تايمز)