جميلات ... في ملفات القضايا (5): الفنانة الاستعراضية تنهي أسطورة {حلاق الهوانم}

نشر في 03-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 03-07-2014 | 00:02
No Image Caption
يضم عالم هوانم {الهاي كلاس} في مصر كثيراً من القصص والحكايات، بعضها يظهر إلى العلن وأغلبها يظل طي الكتمان، لا يُعرف عنه إلا قلة قليلة، من تلك القصص حكاية مصفف الشعر الشهير {صفصف}، الذي وصل إلى ذروة النفوذ والسلطة في سماء قاهرة الثمانينيات، قبل أن ينهار فجأة بعدما أعلنت الحرب عليه نجمة استعراضية كانت ملء البصر والسمع وقتها. أما القصة الثانية فهي لنجمة كبيرة وقعت في محنة عظيمة عندما وقعت في فخ الخطايا، الذي حفره بمهارة مسؤول أمني كبير لإجبارها على العمل مع الجهاز الأمني ما دفعها إلى الهرب إلى أوروبا.
في مصر الثمانينيات كان مصفف الشعر {كوافير} صفوت وشهرته صفصف، أحد أشهر مصففي الشعر في مصر كلها، لا يدخل محله الفقراء، لا تتردد عليه غير سيدات المجتمع الراقي، ونجمات السينما، وزوجات المشاهير وكبار رجال الأعمال وأصحاب المناصب المرموقة. وفي زمن قياسي ذاع صيته، وتناقل الناس عنه أنه يتدخل في حركة تنقلات الشرطة، وتركيب الهواتف للمواطنين بلا دور، وتوزيع شقق الحكومة بلا قرعة.

كان صعود {صفصف} صاروخياً. كان يعيش في أحد أرقى أحياء القاهرة، شقة خرافية الموقع والمساحة والديكور، وسيارة آخر طراز، ومحل فخيم لا مثيل له إلا في دور مصففي الشعر في لندن وباريس وواشنطن. أما هو فكان وسيماً وأنيقاً، وجهه زاخر بالألوان الطبيعية: عينان زرقاوان، شعر ذهبي، بشرة ناصعة البياض، صوت شديد النعومة، جسد رشيق، كأنه خلق لجذب النساء حوله.

 كل ما يعرفه عنه الناس أنه تعلم مهنة {الكوافير} في أوروبا، ثم عاد إلى مصر بثروة ضخمة، بعد سنوات أخرى عمل خلالها في إحدى دول الخليج الغنية، حيث وصفه بعض السيدات في إحدى المجلات الفنية بأن {أصابعه يجب أن تلف في الحرير}. وأقام صفصف مشروعاً آخر جذب إليه عشرات النساء من زبائن محل تصفيف الشعر، أنشأ مدرسة أخرى لتعليم النساء أصول {البروتوكول}، كيف تأكل، كيف تمشي، ماذا ترتدي من فساتين وملابس تتماشى مع المكان والمناسبة والضيوف، متي تتكلم، ومتى تصمت، متى تجلس إلى مائدة الضيوف وكيف تغادرها.

حياة الخمس نجوم لها أصولها وبروتوكولاتها، النقد فيها لاذع ولا رحمة لمن يبدو غريباً عن مجتمع البرجوازي، مهما كان يملك من ملايين الجنيهات، أو يحوز من عقارات وأطيان، أو يعرف من أبناء الذوات. نجح مشروع {صفصف} الجديد كما نجح محل تصفيف الشعر نجاحاً هائلاً. ازدحمت المدرسة الجديدة بعشرات النساء اللاتي قفزن إلى مجتمع المليونيرات بالمنطاد، معظمهن زوجات أو صديقات لأصحاب الضمائر الفاسدة، والأراضي المنهوبة، والصفقات المشبوهة، والمال الحرام، نساء من قاع المجتمع، لكن قفز بهن رجال تخفوا في وصف رجال الأعمال إلى قمة المجتمع والصفوف الأولى.

نساء وجدن أنفسهن فجأة يلبسن من إيطاليا، ويتعطرن من باريس، ويشترين المجوهرات من لندن، ويتناولن الطعام في أشهر مطاعم أوروبا، لكنهن جاهلات بأصول المجتمعات الراقية كافة، كل واحدة منهن خطفت مليونيرا من أولاده، أو اصطادت تاجر مخدرات كبيراً في شباك غرامها، أو بدأت حياتها مع محتال اتجه فجأة إلى لعبة التوكيلات التجارية، أو استيراد اللحوم الفاسدة أو الاقتراض من البنوك بلا ضمان، تشجعت النساء اللائي تعيش كل واحدة منهن دور الهانم على الالتحاق بهذه المدرسة، خصوصاً أن أسماء العضوات فيها في غاية السرية، فضلاً عن أن {صفصف} أضاف إليها ميزة جديدة هي تعليم اللغات بالقدر الذي تظهر به المرأة وكأنها خريجة الجامعات الأجنبية.

كان الرصيف المواجه لمحل {الكوافير} يمتلئ يومياً بسيارات {الشبح} و}الأسبور}، تنافس مثير كان يدور بين زبائن المحل في الأناقة والسيارات ودفاتر الشيكات، وكان المستفيد من التنافس ثلاثة، خزنة الكوافير والسايس وموظف أمن المحل، وكان {صفصف} الرابح الأكبر، كانت كل واحدة منهن تستعرض نفوذ زوجها وسلطاته وعلاقاته، ماعدا نخبة من الهوانم الحقيقيات زوجات كبار المسؤولين في الدولة، نادراً ما تتحدث إحداهن مهما ثرثرت معها إحدى الهوانم المدعيات.

أما وقت التنافس والتفاخر فكان دائما تحته مجفف الشعر، تجلس الهانم تحت وهي تدخن السجائر المستوردة وتطالع المجلات الفنية، بينما يقوم بعض الفتيات في قسم الاعتناء باليدين بتقليم أظفارهن أو طلائها، وتتولى مجموعة أخرى مطاردة شعر السيقان الذي لم ينبت بعد. تحدثت إحداهن عن حفلة زفاف الأسبوع التي حضرتها في الأمس وتكلفت ملايين الجنيهات، وحضرها كبار نجوم المجتمع. وترد الأخرى بمقارنة الحفلة بحفلة أخرى حضرتها هي في عوامة شهيرة تم تبطين جدرانها بحرير بلغ ثمنه نصف مليون جنيه، تم استيراده خصيصاً لهذه المناسبة، وكان مهر العروس طائرة خاصة من عريسها الثري المعروف. وتتدخل ثالثة في الحوار فتروي عن حفلة الخطوبة التي أقامها العروسان في إحدى القرى السياحية، واستمرت فقراته ثلاثة أيام كاملة داخل خيمة كبيرة أقيمت على مساحة خمسة فدادين وامتلأت بالشاليهات المخصصة للمدعوين من أمثالها.

كان {صفصف} يتحرك بينهن كالنحلة، وكثيرا ما كان يطلب من إحداهن خدمة لجاره أو صديقه أو أحد أقاربه، وسرعان ما تطلب الهانم من صفصف أن يمنحها ورقة بالبيانات، لأنها أصبحت تنسى بشدة بسبب انشغالها ببرامج الكمبيوتر والإنترنت، الذي كان في بداية عهده في مصر مقصوراً على بيوت الكبار ومكاتبهم، كنوع من أنواع الوجاهة الاجتماعية.

مهندسون كبار، وضباط شرطة برتب كبيرة، وأطباء شبان، كانوا يترددون على صفصف ويرجونه أن يتفضل عليهم بالوساطة لدى الهانم الفلانية أو العلانية، كانوا ينادونه بصفوت باشا، وكان يتحدث معهم بأسمائهم المجردة، هذا ضابط يخشى من نقله إلى الصعيد، أو يريد النقل إلى القاهرة، أو يريد النقل داخل القاهرة إلى مباحث الكهرباء أو التهرب الضريبي أو الأموال العامة أو الجوازات، وهذا طبيب شاب لا يريد العمل في الوحدة الصحية في الريف، أو يضطهده مدير المستشفى في القاهرة، أو يريد العمل في مستشفى استثماري، وهذا يريد شقة والقرعة لا تنصفه، وذاك يريد هاتفاً وأمامه سنوات ليحين دوره.

ذاعت شهرة {صفصف} الذي تصل الورقة التي تحمل خطه إلى بيوت كبار المسؤولين الذين لا يؤخرون طلبا للهانم، فإن لم تكن الهانم زوجة لمسؤول كبير، فهي زوجة لمليونير له نفوذ وعلاقات، أو ربما تكون على علاقة مع وزير كبير في السر.. وسط هذا النجاح الكبير والنفوذ الهائل الذي تحصل عليه {صفصف}، لم يخالجه الشك لحظة أن ما وصل إليه من الممكن أن ينهار في لحظة، لكنه لم يدرك أن كلمة {دوام الحال من المحال}، من الممكن أن تنطبق عليه.

غلطة عمر

ارتكب {صفصف} غلطة عمره، عندما وقع سوء تفاهم بينه وبين فنانة استعراضية كبيرة، كان الغرور قد تمكن منه، والكبرياء عرفت طريقها إليه، والتعالي سكن نبرات صوته، لكن هذه الصفات كافة لم تظهر إلا مع الناس من العامة دون الهوانم، فهو كان يعرف جيدا كيف يفرق في معاملته بين عامة الشعب ومراكز قوته، ويبدو أن شيئاً ما دفع {صفصف} إلى إحراج الفنانة الاستعراضية لإرضاء زوجة مسؤول كبير كانت تغار منها، وهنا بدأ السقوط.

كانت الفنانة الاستعراضية غاية في الذكاء، استطاعت بمهارة شديدة أن تنقل ملف {صفصف} بالكامل إلى مكتب وزير الداخلية اللواء زكي بدر، في الثمانينيات، وزاد الطين بلة أن أحد مساعدي الوزير كان يتحين الفرصة للقضاء على ظاهرة {صفصف}، قال مساعد الوزير للواء زكي بدر ما أثار غضبه، وانفعاله، وثورته:

• يا فندم أنا آسف إنيّ أنقل واقعة حدثت أمام شهود موجودين على قيد الحياة، لقد وصل الأمر بهذا {الكوافير} إلى أنه ادعى قدرته على التدخل في التعديل الوزاري القادم، وأشاع أنه سيغير وزير الداخلية حينما يخبر زوجة مسؤول كبير أن الشارع المصري أصبح يرفضه ويحلم بإقالته.

استدعى زكي بدر {صفصف} على وجه السرعة، لا أحد يعلم ماذا دار في لقائهما، لكن المؤكد أن {صفصف} ترك مصر كلها ورحل مهاجراً بعد أيام قليلة من هذا اللقاء، أغلق المحل والمدرسة وحجز على أول طائرة، وتصادف أن تم تشكيل وزاري جديد بعد أيام من سفر {صفصف}، وزكي بدر في منصبه الوزاري، وأدرك الناس أن {صفصف} تحول إلى وهم كبير في آخر أيامه، وأن أسطورته سقطت إلى الأبد على يد فنانة استعراضية عرفت كيف تطيح بـ{حلاق الهوانم}.

back to top