ليلة البارحة وبعد عودتي من لقاء أحد الأصدقاء، وبمجرد وصولي إلى البيت، رحت أتفحص جهاز هاتفي الشخصي، لأتواصل مع جديد بريدي الإلكتروني أو أي رسائل قد تكون وصلت إليّ، وإذا بابنتي الصغيرة تنظر إليّ قائلة في ما يشبه حسرة: "بابا، صرت مدمناً على تليفونك!".

Ad

تركت تليفوني مبتسماً واحتضنتها وأنا أشعر بالخجل لسلوكي تجاهها، لكن جملتها حركت الكثير من الألم في صدري، فأنا من جيل كان للاجتماع العائلي حضور مهم في تربيتي، وكان لتلك القصص والحكايات التي يقصها أبي أو عمتي، أثر باقٍ حتى اللحظة في قلبي ووجداني، أذكر تماماً كيف كنتُ وأخوتي الصغار نتدافع لكي نحظى بالمكان الأقرب إلى أبي أو عمتي، حرصاً على سماع الحكاية.

تلك الأجواء الحميمة كانت تصهر أفراد العائلة في بوتقة المشترك الأسري، وتبذر في صدورهم ذكريات مشتركة، وتتيح لهم فرصة ذهبية في التعرف على أفكار وتجارب الأكبر سناً، وتمنحهم فسحة الوقت لتأمل ملامح وجهه، وحفظ نبرة صوته، وفي هذا كله يكون الوعي حاضراً يسجل الحدث على لحم القلب وخفقه.

قولاً واحداً، أنا لست ضد التطور، ولست ضد استخدام الأجهزة الحديثة، مثل "الآيباد"، والتلفون الذكي، والارتباط بالعالم عبر البريد الإلكتروني، وشبكات التواصل الاجتماعي، لكني ضد أن تتطفل وتتسيد هذه الأجهزة على وقتنا، ونعتاد عليها ونتحول مع مرور الوقت لنكون عبيداً لها، فالإنسان بطبعه "عبد لما اعتاد عليه"، وأخطر ما في الأمر، أن اعتياد وإدمان استخدام الأجهزة الذكية، ومواقع شبكة الإنترنت، وارتباطات شبكات التواصل الاجتماعي، وتزجية الوقت بالألعاب ومشاهدة أفلام "اليوتيوب" ينخر العلاقات الإنسانية داخل إطار الأسرة الواحدة، ويُنشئ جيلا هو في غربة عن أخوته وأهل بيته.

لقد بات أمراً مألوفاً وشائعاً أن يجلس أفراد الأسرة الواحدة، وكل منهم في عزلته، لاهياً عن الآخر في عالم تليفونه وعلاقاته الافتراضية، بعيداً كل البعد عن علاقاته المحسوسة، مع أهل بيته، حتى أن هذه الأجهزة أبطلت الكثير من سحر شاشة التلفزيون، التي كانت تجمع أفراد الأسرة من حولها. مما ينتج عنه هوة من الصد الإنساني غير المقصود بين الفرد وأهله. ويأخذ الأمر بعداً مخيفاً حينما يتعلق بالأطفال والناشئة، كونهم يكبرون وهم في غربة عن أسرهم وأهلهم، وغربة أخرى عن ارتباطهم بتراث أوطانهم وحكاياه المنقوشة في ذاكرة أبنائه الأكبر سنا منهم!

جاءت الأجهزة التقنية المتطورة بهدف نبيل لمساعدة الإنسان على الوصل والتواصل مع الآخر، وتقديم متعة له، لكن يبدو أن هذه المتعة تسلقت شجرة الأسرة الأحب، والأكثر دفئاً. وصارت تعتاش على اخضرارها، حتى أنها في سبيلها إلى تدميرها، حيث يمضّي الأهل أو الأصدقاء ساعة لقاء، لا يرون من

بعضهم إلا وجودهم الخارجي الخادع، بينما كلٌ منهم لاهٍ بعالمه، تجمعه اللحظة وتفرقه العولمة!

العالم يعيش لحظة إنسانية راكضة، مليئة بالقلق والغربة والاغتراب، وهذا يفسر هروب المجاميع البشرية إلى شبكات التواصل الاجتماعي، لكن المفارقة، في من يبحث عن الأصدقاء عبر العالم، متناسياً أقرب أحبته وأهل بيته! يستميت هو في التقرب من الآخر البعيد، متحاشياً النظر إلى الأحب الذي يجلس إلى جانبه. وأنا إذا أقول هذا تتسارع الأسئلة في رأسي: هل محيطنا العائلي بات أقل من أن يلبي حاجاتنا المجنونة للتواصل مع العالم؟ هل الانكشاف الملوّن على الآخر، أسهل من التواصل مع الأقرب الذي يعرف "البير وغطاه"؟ أو أن صد القريب وقسوته يدفع بنا للهروب إلى الآخر البعيد، فحتى على البعد يبقى الوصل الإنساني قائماً، وتبقى الأجهزة الذكية وسيلة للحياة؟