فجر يوم جديد : الفيل الأزرق
قبل ساعات من انطلاق سباق أفلام موسم عيد الفطر المبارك تمنيت، في هذه الزاوية، أن يتكرر الانقلاب الذي اعترى خارطة الدراما التلفزيونية الرمضانية، وأسفر عن تفوق جيل الشباب على حساب {السوبر ستارز}، بعد ما أيقنت أن ثمة تغيراً أصاب المزاج العام، وأن زلزالاً ضرب النظريات التي كنا نتصورها مسلمات، وأن الجمهور الذي أظهر وعياً ملحوظاً تمثل في تجاوبه مع المسلسلات الدرامية التي عُرضت على الشاشة الصغيرة، وانحيازه إلى رؤى ناضجة، على صعيدي الفكر والفن، سيكون جديراً بأن يفعل الأمر نفسه، على صعيد السينما، عندما يُقدم الدليل القاطع على أن ذوقه تغير، ووعيه اختلف، وأنه لم يعد الطفل الساذج الذي يتم التغرير به بواسطة أفلام هابطة ومبتذلة تنتظره في موسم العيد!فعلها الجمهور، وفاجأ الجميع، عندما أقبل على مشاهدة أفلام العيد ذات السوية الفنية والفكرية الرائعة؛ مثل {الحرب العالمية الثالثة}، {الفيل الأزرق} و{صنع في مصر} وقفز بها إلى قمة شباك التذاكر في حين وجه لطمة قاسية، وصفعة مدوية، إلى الأفلام الماسخة التي تخلو من التجديد والابتكار؛ مثل {جوازة ميري} و{عنتر وبيسة} وقادها إلى احتلال المؤخرة التي تليق بها!
أكثر ما أثار سعادتي أن الجمهور تجاوب مع فيلم {الفيل الأزرق}رغم اختلافه عن كل ما يُقدم في سياق السينما العربية، ورغم إصراره على ألا يُساير أو يُجاري السينما التقليدية التي اعتدناها، بالإضافة إلى صعوبة الرواية التي اعتمد عليها، ووضح جلياً أن المخرج مروان حامد وقع في غرامها، ولم يخش مغبة تحويلها إلى تجربة فنية لا تخلو من مغامرة مثيرة، على صعيدي السرد الدرامي غير التقليدي، واللغة البصرية التي قُدمت على نحو دقيق ومُتقن وغير مسبوق في السينما المصرية؛ فالتفاصيل لها اعتبار كبير، واحترام ذكاء الجمهور يمثل ركناً رئيساً في التجربة؛ فمن خلال الصورة نُدرك أن البطل {يحيى راشد} (كريم عبد العزيز) يُعاقر الخمر، وأنه مُهدد بالفصل من عمله كطبيب في مستشفى الأمراض العقلية في العباسية، بسبب انقطاعه عن العمل من دون إذن، وأنه يعيش مأساة نتيجة وفاة زوجته وطفلته في حادث سيارة، وشعوره بأنه يتحمل مسؤولية مقتلهما، كونه أفرط في شرب الخمر. ومن حواره مع سائق التاكسي نُدرك أنه قاطع الصحف منذ ما يقرب من الخمس سنوات، وسرعان ما نعرف أنه قارئ جيد لحركة الجسد! هذه التفاصيل الدقيقة التي بثها الكاتب أحمد مراد، في الرواية ثم السيناريو، ساعدت المخرج مروان حامد على تقديم مخيلة بصرية متكاملة. كذلك كان لظهور شخصية {شريف الكردي} (خالد الصاوي) زميل الدفعة المتهم بقتل زوجته دور كبير في الثراء البصري الذي ملأ أرجاء الشاشة؛ فالهلاوس السمعية- البصرية للبطلين أطلقت العنان لأفكارهما، وحررتهما من الجمود، ومن ثم صنعت صورة لا تُضاهى في الإبهار، وحراكاً لا يُبارى في الإثارة، وظهرت براعة المخرج في إدارة ممثليه؛ خصوصاً كريم عبد العزيز وخالد الصاوي، فضلاً عن التوظيف الأكثر من رائع للمؤثرات الصوتية والبصرية وفن {الغرافيك}، ومونتاج أحمد حافظ، وديكور محمد عطية، بينما أضافت موسيقى هشام نزيه الكثير إلى خصوصية التجربة المليئة بالغموض والإثارة، والتي يمكن القول إنها تمثل واحدة من التجارب القليلة والنادرة التي أخلصت فيها السينما المصرية للنص الأدبي، وأضافت إلى الرواية زخماً بصرياً، وهي الميزة التي يُدركها كل من قرأ رواية {الفيل الأزرق}، في حين سيظهر بالطبع من يرى أن الفيلم تجاهل وقائع مهمة في الرواية، وأسقط من حساباته تفاصيل كانت ستمنح الفيلم الكثير من المتعة البصرية، والتشويق الذهني، فضلاً عن الإثارة النفسية!داخل عنبر {8 غرب} المخصص لمرتكبي جرائم النفس في مستشفى العباسية للأمراض النفسية تدور غالبية أحداث فيلم {الفيل الأزرق} لكن أحداً من مدمني الفرجة على السينما المصرية لن يرى فيه تكراراً لأفلام، ومواقف وشخصيات، شاهدها وتابعها وعاشها سابقاً؛ فالجرعة مقننة بشكل يثير الإعجاب، والإتقان محسوب برصانة تستدعي الدهشة، واللون الكابي الكئيب يُظلل الأحداث ليكرس الشعور بالظلم والظلمة، والتخريب والتدمير اللذين يُمارسان على الروح والجسد، وأغلب الظن أن النهاية السعيدة لن تمنع المتلقي من مجاراة بطله {يحيى} في حبه للمعرفة، واقتناعه التام بأنه على حق في إيمانه بأن {بين الحقيقة والخيال باب اسمه الفضول}! قليلة هي المرات التي ينجح فيها فيلم مصري في تحقيق المعادلة الصعبة، التي يجمع فيها بين النجاح الجماهيري والاستحسان النقدي. لكن فيلم {الفيل الأزرق} فعلها لأن طاقمه أخلص للتجربة، ولأن عناصره اكتملت، ولأنه، وهي النقطة الأهم، لم يتعال على الجمهور، فما كان من الأخير سوى أن رد له الجميل، وتفاعل معه، ولم يتعامل معه بوصفه فيلم عيد!