في «بنها» استقبلت زوجة الوالد الشاب رشدي أباظة بترحاب كبير، مؤكدة له أن «طبق العدس الأباظي» في انتظاره، غير أنه سيكون هذه المرة من يد ابنتها فاطمة، في تلميح صريح للفت نظره إلى ابنتها، إلا أنه لم يكن يرى فيها سوى أخت له.

Ad

جلس رشدي مطأطئ الرأس، متردداً حائراً، فلاحظ والده ذلك، فظن أنه يعاني مشكلة في المدرسة، أو مع والدته، فبادره:

* مالك يا رشدي ساكت ليه؟

- إيه... أبدا مافيش حاجة حضرتك.

* مافيش إزاي هو أنا مش عارفك. شكلك عايز تقول حاجة. عارفك من ساعة ما كنت صغير كنت تيجي تقف وتبص في الأرض. أعرف على طول إن في مشكلة ولا عامل عملة وجي تقول عليها.

- بصراحة أيوا.

* أيوا إيه... عامل عملة؟ ولا عندك مشكلة؟

- بابا أنا كبرت.

* كده... يبقى بتفكر في الجواز.  

- لا حضرتك. أنا مابفكرش في الموضوع دا دلوقت.

* مفهوم مفهوم. لسه قدامك وقت لما تدخل مدرسة الطيران وتتخرج ظابط طيار. عموماً هانت خلاص... كلها شهرين وتاخد البكالوريا.

تدخلت زوجة والده في الحوار لتحسم الموضوع:

= وليه يستنى لما يتخرج؟ ما يخطب دلوقت ولما يتخرج يبقى يتجوز.

- يا طنط الموضوع دا مش في دماغي خالص. أنا عايز حضرتك يا بابا في موضوع خاص.

= طب عن إذنكم... أسيبكم مع بعض.

* اتكلم يا سيدي أدي إحنا بقينا لوحدنا.

- بابا أنا قررت أشتغل.

* ومستعجل ع الشغل ليه؟ عندك أولاد مش عارف تأكلهم ولا مش عارف تصرف على نفسك.

- حضرتك أرجوك افهمني. أنا قررت أسيب الدراسة واشتغل.

ما إن سمع سعيد أباظة العبارة الأخيرة من كلام رشدي حتى انتفض ثائراً، وهاج وماج وعلا صوته رافضاً مجرد مناقشة الموضوع، مهدداً ومتوعداً بضرورة إعادة تربيته لإعادة عقله إلى رأسه، متهماً إياه بالجنون، فلم يبق على حصوله على شهادة البكالوريا سوى شهرين، وبقراره المتهور هذا، سيقضي على أحلامه وأمانيه كافة في أن يرى ابنه البكري مرتدياً الملابس العسكرية.

خرج رشدي من بيت والده محبطاً ويائساً‏، وطوال الطريق يفكر، ماذا لو أن والده أصر على موقفه؟ فهو لم يعد يطيق حياة المدرسة الداخلية‏,‏ حتى لو لم يبق له فيها سوى شهرين، فقد كره حياة الوحدة والاغتراب، بل والتنقل بين بيت والده وبيت والدته. كره أن يرى في أعين زوج أمه، أو زوجة أبيه، أنه الضيف الزائر الذي ليس له الحق في بيته، فضلاً عن أنه يريد أن يرسم مستقبله كما يريد هو، وليس كما يريد والده أو والدته، ولكن كيف؟ فإذا كان والده قد فعل ذلك، فماذا ستفعل والدته؟

قرر رشدي ألا يقف عاجزاً عن إيجاد شخصية مستقلة له‏، وأن يستمر في المعركة إلى النهاية، مهما كانت النتائج، وما إن وصل إلى بيت والدته في ميدان الأوبرا، وراح يستعد للجولة الثانية من المعركة التي سيخوضها مع والدته، وفي داخله إصرار كبير على عدم الاستسلام أو النزول على رغبتهما، غير أنه لم يصدق ما وجده في بيت والدته، فما إن تحدث حتى وجد حماسة كبيرة من زوج والدته:

- رشدي بيفكر صح. مش ضروري يكون صورة من والده.

* أيوا بس كدا ممكن...

- مافيش بس. رشدي بقى راجل ومن حقه يعيش حياته ويبقى له بيت مستقل ويتجوز ويعمل أسرة.

* لا... يتجوز لا. رشدي لسه صغير. يشتغل ماشي لكن جواز لسه بدري. بس هاتشتغل إيه؟ أنت ماعندكش فكرة عن أي حاجة.

= مش مهم يا ماما... الشغل كتير.

- مافيش أحسن من التجارة. رشدي مخه حلو... أنا واثق أنه في ظرف سنتين تلاتة هايكون تاجر شاطر وله اسمه.

* أنا ماعنديش مانع. بس بشرط بابا يوافق.

ما فعله زوج الأم، فعلته زوجة الأب في إقناع الوالد بأن يترك رشدي يستقل بذاته ويبدأ حياته العملية، وأهمية أن يكون ذلك تحت إشرافه ومن خلاله، فوافق الأب على مضض بعد محاولات عدة، وبعد تفكير طويل استقر الرأي أن يعمل رشدي بالتجارة، حيث افتتح له محلا لبيع «قطع غيار السيارات» في «شارع زكي» في منطقة التوفيقية في وسط القاهرة‏، على بعد خطوات من بيت والدته.

ولكن وبسبب إهماله، لم يمر عام حتى أغلق رشدي المحل بشكل نهائي، بعدما أيقن أنه لم يخلق للتجارة أو البيع والشراء، غير أنه في الوقت نفسه لم يعد يعرف ما الذي يتقنه أو يمكن العمل به؟

لم يعد أمامه سوى الملاهي الليلية وكازينوهات شارع عماد الدين، أو صالة البلياردو التي بدأت تأخذ منه اهتماماً أكبر، خصوصاً بعدما أخذ بعض الأصدقاء من روادها يتحدونه، ما زاد من إصراره وعناده... كعادته.

لم يعبأ الوالدان بخسارة تجارة رشدي المالية، بقدر ما كان قلبهما يعتصران ألماً لضياع مستقبله، فلا هو أكمل دراسته وأصبح كما يريدان، ولا هو نجح في طريق التجارة الذي اختاره بنفسه.

ذهب رشدي كعادته اليومية إلى صالة البلياردو، وما إن دخل من باب النادي حتى وجد مفاجأة لم يكن يتوقعها، وجد أمامه صديقي الإسكندرية، عادل أدهم وعلي رضا، جاءا إلى القاهرة بحثاً عن عمل في مجال الفن‏:

- فعلا مفاجأة مش ممكن كنت أتوقعها يا عادل.

* إحنا بتوع المفاجآت يا إكسلانس.

- برضه بتجروا ورا حكاية السيما دي. أنا مش عارف إيه اللي غاويكم فيها بس؟

* السينما فن جميل يا رشدي. لازم تحبه علشان يحبك. ولو السينما حبتك هاتديلك سرها اللي ممكن يخلدك.

- يا سيدي احييني النهارده وموتني بكرة.

* ما تحط إيدك في إيدنا ومن بكره نلف على الإستوديوهات ومكاتب المنتجين.

- نعمل إيه؟ نشحت.

* نشحت إيه بس يا أخي. ماهو لازم نقدم نفسنا... أمال هايعرفونا منين.

- ما أنتوا مثلا بتشتغلوا فعلا في السيما. يعني عادل اشتغل في فيلم «ليلى بنت الفقراء» مع الجدع اللي اسمه أنور وجدي. عمل له إيه؟ وأنت بتشتغل مساعد مخرج وراقص وممثل. هايعرفوكم أمتى أمال؟ لما شعركم يشيب؟

* يا رشدي المسألة دي عايزة صبر ودأب. وإحنا سيبنا كل حاجة في الإسكندرية وجينا هنا مصر ومش هانرجع إلا لما نحقق حلمنا.

- طب ياعم ربنا يقويكم. خلوني أنا في حلمي. إيه رأيكم في «الأوبرج» بروجرام هايل... إيه رأيكم أنا عازمكم النهارده.

ربط الحلم والعذاب بين الثلاثة‏،‏ كانوا يمضون نهارهم في النوادي الرياضية، أحواض السباحة‏، وساعات الليل بين الصالات والملاهي الساهرة‏. ورغم أن عادل أدهم وعلي رضا كانا يبحثان وينقبان عن فرصة واحدة للنفاذ إلى شاشة السينما‏، فإن ذلك لم يجذب رشدي أباظة إلى عالم الفن‏،‏ لكن القدر كان لديه ترتيب آخر لم يخطر في بال ثلاثتهم.

التقى الأصدقاء الثلاثة كعادتهم اليومية في نادي البلياردو، بدأ رشدي أباظة وعادل أدهم اللعب معاً، ورغم أن عادل كان قد سبق رشدي إلى تعلم اللعبة، فإن رشدي سرعان ما تفوق عليه، وراح يظهر براعة غير عادية، لفتت أنظار كثيرين من رواد النادي، خصوصاً كلما تقدم رشدي بحركة مباغته ضد عادل، أطلق ضحكة عالية اهتزت لها أرجاء النادي.

وقف علي رضا على مقربة منهما يتابع مجريات اللعب، غير أنه لاحظ أن أحد رواد النادي يتابع حركات وسكنات رشدي كافة، إذا انتقل إلى اليمين انتقل خلفه، وإذا انتقل إلى اليسار استدار ليكون في مواجهته، ثم أتى بكرسى وجلس في نهاية النادي، ولم يحول عينيه عنه، فوجد علي رضا أن الأمر زاد عن حده الطبيعي، فهمس لرشدي:

- تقصد مين؟

* اللي هناك في آخر الصالة دا بس ما تبصش علشان مايلاحظش إننا واخدين بالنا.

- ما يلاحظ... أنا عايزه يلاحظ ولو فتح بقه هايندم أشد الندم إنه نزل من بيته النهارده.

* يا أخي بلاش تهور. اصبر بس لما نشوف حكايته.

= إيه يا جماعة في إيه عمالين تتوشوشوا في إيه.

* أخينا اللي هناك دا ماشلش عينه من عليا من ساعة ما دخل النادي.

= طب ما يمكن يعرفك يا رشدي... ولا بيشبه عليك.

- لا... دا زودها أوي. لا وفاتح بقه ع الآخر وسعيد أوي ماعرفش على إيه... أنا لازم أروح أعرفه مقامة وأديله علقة ماينسهاش عمره.

* استنى استنى يا رشدي.. شكله جاي على هنا.

لاحظ الرجل تلميحات الأصدقاء الثلاثة، فقرر ألا يتركهم للتخمينات، فاقترب منهم، قاصداً رشدي تحديداً:

* ليلتكم سعيدة.

- دا على حسب!

* هايل.

- هو إيه دا اللي هايل.

* كلامك... صوتك... شكلك... ضحكتك... كلك على بعضك هايل.

- لا... دا أنت زودتها أوي.

أمسك رشدي بعصا البلياردو وهمَّ أن يرفعها في مواجهة الرجل، فسارع علي رضا وأمسك بيد رشدي، وتحرك عادل أدهم ليقف حاجزاً بين رشدي والرجل، فأيقن الرجل أن ثمة خطأ ما قد حدث:

* آسف يا جماعة. يظهر إن فيه سوء تفاهم حصل. أنا كان المفروض أقدم نفسي الأول، بس سعادتي بالأستاذ نستني الأصول.

- ما علينا. اتفضل. مين حضرتك؟ وإيه النظرات دي كلها بتشبه على حد فينا؟

* للأسف ماحصليش الشرف قبل كدا. أما من جهة مين حضرتي... فاسمحوا لي أقدم لكم نفسي: كمال بركات مخرج سينمائي.   

ما إن سمع عادل أدهم وعلي رضا كلمة «مخرج سينمائي» حتى وجما ونظر كل منهما إلى الآخر، ثم لمعت عيونهما، وفجأة كأنهما قد أصابهما مس من الشيطان انتفضا غير مصدقين، فيما نظر إليه رشدي بلا مبالاة ساخراً:

- وافرض... إحنا مالنا؟

= استنى بس يا رشدي يا أخي. اتفضل يا أستاذ كمال... اتفضل تعالَ هنا استريح.

* لا أشكركم. أنتم اللي ممكن تتفضلوا معايا... نقعد في مكان هادي نشرب حاجة ونتكلم براحتنا.

لم يعرف كل من عادل أدهم وعلي رضا، كيف قطعا الطريق من نادي البلياردو إلى حديقة {غروبي» بينما كان رشدي يسير وهو في دهشة من أمر هذا الضيف الذي لم يخطر لهم على بال، وكيف أقحم نفسه عليهم بهذه الطريقة؟ فهو يعلم جيداً أن عادل وعلي، يبحثان عن فرصة في السينما، غير أن الرجل خصه بالحديث وحده، ولم يوجه إليهما أي كلام، فماذا يريد منه؟

كان ذلك يدور في رأس رشدي وهو يسير، فيما راح المخرج كمال بركات يراقب خطواته: كيف يسير، كيف يتحرك برشاقة؟ ينظر إلى جسده الرياضي وعضلاته المفتولة، وكيف أنه يلفت أنظار بعض الفتيات والنساء ممن يسيرن في الشارع؟ بينما يوجه إليهن رشدي ابتسامة ساحرة كأنه نجم سينمائي يوزع ابتساماته على المعجبات؟

ساد الصمت لحظات، بينما كان يدور صراع خفي في عقل كل منهم. غير أن بركات لم يتركهم لصراعاتهم، وراح يفك طلاسم اللغز، الذي كان أدهم ورضا، أكثر شوقاً لمعرفة تفاصيله، فيما اكتفى رشدي بالصمت وهز رأسه:

* أولا أنا بكرر اعتذاري عن الطريقة اللي اتعرفت بيها عليكم.

= لا أبدا يا أستاذ.. إحنا اتشرفنا بمعرفتك.

- حصل خير يا أستاذ كمال مافيش حاجة.

* في الحقيقة أنا اشتغلت مساعد مخرج مع عدد كبير من المخرجين الكبار وعملت معاهم أفلام زي «يد الله، ضربة القدر، شادية الوادي» لحد ما ربنا أكرمني وقررت أخرج أول فيلم باسمي.

= هايل يا أستاذ.. عظيم جدا..

* الفيلم اسمه المليونيرة الصغيرة..

= دا من اسمه كدا شكله هايكسر الدنيا.

* وفي الحقيقة أنا كان نفسي البطل يكون وجه جديد... كل النجوم اللي ع الساحة دلوقت الناس حفظوهم، علشان كدا فكرت أني أقدم وجه جديد... إيه رأيك يا أستاذ.

= أنا... طبعا أنا ماعنديش...

* لا أنا قصدي الأستاذ اللي ساكت من ساعة ما دخلنا دا.

- مين أنا؟

* أيوا أنت. صحيح أنا اتعرفت على البهوات أصحابك ولكن ما اتشرفتش باسمك.

- أنا اسمي رشدي... رشدي سعيد أباظة.

* رشدي أباظة من عيلة الأباظية؟

- أيوا.

* هايل... طب ماقلتليش... إيه رأيك؟

- في إيه؟ ثم أنا مالي ومال اللي بتحكيه. أنا علاقتي إيه؟

* إزاي؟ ماهو أنت البطل اللي اختارته يقوم ببطولة الفيلم قدام الآنسة فاتن حمامة.

- إيه؟! أنا؟ بس... لا... مش ممكن.

* مش ممكن ليه؟

- أنا فاكرك من ساعة ما قلت إنك مخرج كنت تقصد عادل أو علي. هما اللي لهم علاقة بالسينما واشتغلوا فيها قبل كدا. لكن أنا ماليش علاقة بيها... ولا بفكر.

* يا سيدي إن كان على الأستاذ عادل والأستاذ علي... الأفلام جاية والفرص كتير. لكن بطل «المليونيرة الصغيرة» شايفه فيك زي ما رسمته في دماغي. أنت اتولدت علشان تكون نجم سينمائي... وأنا براهن عليك.

= وافق يا رشدي... وافق.

= ألف مبروك دي فرصة هايلة.

- حلمكم علي بس يا جماعة. أنا ماعرفش أي حاجة في السيما.

* دي مهمتي أنا. مالكش دعوة. كل اللي مطلوب منك هو أنك هاتسيب لي نفسك... وأنا هأعمل منك نجم الموسم.

جاءت الكلمات صريحة كالطلقات تحاصره من كل جانب، سواء من صديقيه عادل أدهم وعلي رضا، اللذين فرحا بشدة وراحا يحمسانه، أو من المخرج الذي استطاع خلال دقائق معدودة أن يرسم له ملامح المستقبل الذي ينتظره.  

عقدت المفاجأة لسان رشدي، فلم يستطع أن يرد‏،‏ الكلمات لم تسعفه‏، ومع إلحاح كمال بركات والصديقين، طلب فرصة للتفكير حتى اليوم التالي، قبل أن يتخذ قراره.

البقية في الحلقة المقبلة

حرية وخسارة

بعدما افتتح محل «قطع غيار السيارات» بدأ رشدي حياة جديدة، طالما حلم بها، حياة قوامها الأساسي «الحرية»، للمرة الأولى يصبح حراً بلا قيود أو أوامر وعادات وتقاليد، فتلميذ الأمس أصبح اليوم «صاحب محل» أو كما يقال عمن هم في مثل حالته «ابن سوق» يبيع ويشتري، يتعامل مع الغني والفقير، يصادق البكوات والعمال المهنيين، غير أنه لم يكن يذهب إلى المحل إلا في الثالثة أو الرابعة عصراً، بينما يستعد أصحاب المحال الأخرى لانتهاء يومهم، بعد يوم طويل بدأ في الثامنة صباحاً، لكن كيف يستيقظ في الثامنة صباحاً من ينام في الرابعة فجراً؟

فما إن كان يغلق المحل في الثامنة مساء كبقية محال الشارع، حتى يتوجه رشدي إلى أحد مكانين ليمضي في أيهما ليلته حتى الساعات الأولى من الصباح، وكل منهما على بعد خطوات من محل عمله. الأول كان «شارع عماد الدين» الذي لم يكن يذهب ليرتاد المسارح أو دور العرض السينمائي المنتشرة بطوله وعرضه، فلم يعرهما اهتماماً، بل يذهب ليرتاد الملاهي الليلية، أو «كازينوهات» الفرق الأجنبية الراقصة، حيث يأخذ الإيراد اليومي للمحل، وبدلا من أن يفكر في ما ينقص المحل من بضائع يذهب لينفقه في شارع عماد الدين، فقد بدأ يشرب ويدخن ويجالس الحسناوات الفرنسيات والإيطاليات واليونانيات، تساعده على ذلك وسامته اللافتة، فضلاً عن إتقانه اللغات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، وتحدثه بها كأهلها، إلى جانب العربية.  

المكان الثاني الذي كان يذهب إليه رشدي بالتوازي مع شارع عماد الدين هو صالة لعب «البلياردو»، تلك اللعبة التي تعلمها وأتقنها في الإسكندرية، حتى بدأت تجارته في التراجع، حيث يأخذ منها ولا يضيف إليها، فضلاً عن السهر حتى الفجر، والنوم حتى آذان العصر، ما جعل جيرانه من أصحاب المحال الأخرى، يتندرون عليه، خصوصاً بعدما بارت تجارته ولم يعد يبيع أو يشتري. وساعد على ذلك نشوب الحرب في فلسطين في مايو عام 1948، بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1947، بتقسيم فلسطين، فشاركت كل من الممالك المصرية، والأردنية، والسعودية، والعراق وسورية ولبنان، في حرب ضد المليشيات الصهيونية في فلسطين، والتي تشكلت من «البلماخ والأرجون، والهاجاناه، وشتيرون، وبعض المتطوعين اليهود من خارج حدود الانتداب البريطاني على فلسطين، فتسببت أجواء الحرب في كساد التجارة وتوقف حركة البيع والشراء، فأصبح رشدي يذهب كل يوم إلى المحل، لا ليبيع ويشتري لكن ليرتب مواعيده ويستقبل أصدقاءه، ثم يغلقه ليبدأ سهرته!