في العقدين الأولين من هذا القرن كانت تتنازع الشعر الإنجليزي، باتجاه الحداثة، مدرستان، الأولى تمثلها أصوات شابة تبدو وكأنها تبدأ من الصفر نابشة التربة من أجل بذور بكر (ييتس، أليوت، باوند)، والثانية تنبش التربة من أجل مزيد من الإخصاب للجذور الذي تطلع منها قصائد الشعر الغنائي، متمثلة بأصوات توماس هاردي، أدوارد توماس، ولفريد أوين، سيجفريد ساسون، وأخيرا الشاعر روبرت ﮔريفز.

Ad

ولد ﮔريفز في لندن عام (1895)، أحد أبرز الشعراء الغنائيين في الأدب الإنجليزي الحديث. وهو امتداد لصوت توماس هاردي الذي لم يتوقف ﮔريفز عن تأثره به. اهتماماته بالأسطورة الكلاسيكية، ولقد وضع فيها كتبا عدة، كان ذا تأثير استثنائي على شعره وعلى موقفه النظري من الشعر، خاصة في ما يتصل بموضوعة الإلهام. الشعر لديه يحتفظ بالحكمة السرية للناس، ويُستوحى من مصدر إلهامي أنثوي يسميه «الملهمة البيضاء».

بدأت الحرب العالمية الأولى وﮔريفز في سنته التاسعة عشرة. كان جنديا وجرح في الحرب، حتى شاع أنه قتل فيها. وبالرغم من أنه خرج منها حيا، إلا أن آثارها الجسدية والنفسية كانت حاسمة. وضع خبرته في أول كتاب أصدره بعنوان «وداعا لكل ذلك». وكان أول عهده بالشهرة. رجع إلى جامعة أكسفورد، مع زوجة وأربع بنات صغار هذه المرة، وهو بعد في العشرين. مصدرهم الوحيد معونات قليلة كانت تصلهم من أهله وأهل زوجته، وبضعة أصدقاء كان ساسون ولورنس (لورنس العرب) من جملتهم.

للخلاص من الأزمة المالية وجد فرصة تعاقد للتدريس في جامعة القاهرة بمصر. فسافر هو وزوجته نانسي نيكلسون وبناته، وصحبتهم الشاعرة الأميركية الشابة لورا رايدنج، لكنهم سرعان ما سقطوا ضحايا الأمراض فاضطرهم الأمر إلى العودة.

يبدو أن التحاق لورا هيأ فرصة للالهام، فما ان عادوا من القاهرة، حتى ترك زوجته واستأجر، مع لورا شقة خاصة بهما في لندن. كان تعلقه أحد أهم مصادر إلهامه في موقفه الشعري. ولكنها، أيضا، واحدة من أخطر مصادر متاعبه التالية. بدأت أولى المتاعب حين التحق بالمجموعة شاعر أيرلندي وسيم يدعى جيفري تيلر، سرعان ما وقعت لورا رايدنج في حبه، لكنه لسوء حظ الأخيرة، كان يفضل عليها نانسي، الأمر الذي دفع لورا بفعل الغيرة إلى أن تُلقي بنفسها من نافذة في الطابق الثالث تحطمت على الأثر جميع عظامها ولكنها لم تمت.

نانسي وجيفري والأطفال أقاموا في لندن، في حين غادر الشاعران المسكينان ﮔريفز ولورا إلى فرنسا، ومنها إلى الجزيرة الإسبانية «مايوركا» حيث ابتنيا منزلا لهما وأقاما فيه. ويرجع فضل إمكاناتهما المالية إلى المبيعات التي حققها كتاب ﮔريفز الأول «وداعا لكل ذلك».

كانت لورا شديدة الغيرة من نجاح ﮔريفز. إلا أن غيرتها لم تُضعف من ولَه ﮔريفز بها كملهمة، رغم أنها لم تكن تبادله الحب. وكانت تمعن في خيانته مع مريديه إلى أن سافرا معا، على أثر الحرب الأهلية الإسبانية (1936)، إلى أميركا، حيث وقعت في حب رجل آخر تزوجته على الفور. وتحرر هو من هذا الوله، بعد ثلاث عشرة سنة من العبودية الغريبة الطابع. في أميركا التقى امرأة جديدة تدعى بيريل هودج وتزوجها، وأنجب منها أربعة أطفال آخرين.

أقام في لندن، سنوات الحرب الثانية، ثم غادرها إلى جزيرته المحببة «مايوركا» عام (1946)، وهناك استعاد نشاطه الأدبي من جديد، محاطا بعائلة دافئة وأصدقاء محبين، ومعجبين يتكاثرون مع الأيام.

إن نشاط روبرت ﮔريفز لم يقتصر على كتابة الشعر والرواية التاريخية بل اتسع، بفعل الدعوات التي تلقاها محاضراً في جامعات كامبردج وأكسفورد إلى الدراسة والنقد الأدبيين. وعبرهما أنضج مواقفه النظرية في علاقة الأسطورة بالشعر، والشعر بالقوى الملهمة، كما واصل مواقفه الرافضة، التي تبدو متطرفة، من الموجات الشعرية الطليعية التي مثلها كل من أليوت وباوند.

عاش روبرت ﮔريفز حتى التسعين. أصابه مرض «خرف الشيخوخة»، الذي تركه لسنوات يجلس وحيداً محدقاً في الفراغ تحت رعاية زوجته المسنة بيريل حتى وفاته عام 1985.