عندما احتفل الصوماليون بعودة إشارة المرور
لا أعرف إن كان خبرا يوضع في قسم الأخبار الطريفة أو في "صدق أو لا تصدق"، إنه خبر ذو دلالة سياسية وجرس إنذار جدير بنا أن نتوقف أمامه متمعنين محاولين فهم دلالات انهيار الدولة.الخبر الذي نشر منذ عدة أسابيع يقول باختصار إنه لأول مرة منذ عشرين عاماً تعود شرطة المرور إلى شوارع العاصمة الصومالية مقديشو، للتعامل مع جيل من السائقين لم يعرف أنظمة المرور أبداً، فضلاً عن أن معظم السيارات في مقديشو لا تحمل لوحات وأرقاماً ما يصعب على الشرطة توثيق المخالفات المرورية، وقد بدأت الحكومة الصومالية مؤخراً وضع إشارات المرور وعلامات الطرق على بعض التقاطعات الرئيسية في العاصمة، وسيتم تركيب إشارات سير ضوئية بعد عشرين عاماً أيضاً، حيث تغيب إشارات المرور الضوئية عن العاصمة الصومالية بالكامل حالياً، لكن تخطط البلدية لتركيب إشارات تعمل بالطاقة الشمسية عند 54 تقاطعاً كمرحلة أولى، ولاتزال عناصر الشرطة تعمل حتى اليوم على تنظيم حركة مرور السيارات والمركبات الأخرى في تقاطعات الشوارع المزدحمة باستخدام إشارات بأيديهم وقطعة من العصا في أحسن الأحوال، لكن السائقين الجدد لم يتأقلموا مع هذه الإشارات لعدم معرفتهم بها، كما أن آخرين يتجاهلونها لأنهم يعرفون أن شرطة المرور غير قادرة على محاسبتهم.
ليس فقط شرطي المرور هو الذي غاب بزيه وصافرته عن شوارع العاصمة الصومالية خلال العشرين عاماً الماضية، بل إن هذا الاختفاء كان جزءاً من اختفاء جماعي لكل ملامح الدولة وبالتالي انحسار، إن لم يكن انعدام، كل أشكال الهيبة المفترضة ولو بحدها الأدنى، حيث اعتاد سائقو السيارات على القيادة في شوارع المدينة في أي اتجاه دون التقيد بأنظمة المرور، وهذا انعكاس لحالة الدولة التي غاب عنها كل مقومات الدولة الأساسية بمفهومها القديم أو الحديث، كانت الصومال جزءاً من تاريخ القارة الإفريقية ودول القرن الإفريقي، ولكن انتهى بها الحال إلى دويلات قزمة تسيطر عليها ميليشيات لا تعرف إلا السلاح وسيلة وحيدة لفرض سطوتها، هكذا الوضع هناك منذ حوالي عشرين عاماً، واستمر هكذا متفاعلاً مع التطورات السلبية التي أكدت حالة الانقسام والتناحر، وباتت اللغة الوحيدة هي لغة العنف والسلاح، وانعكس هذا الواقع على العلاقة بين الناس والشرطة، حيث إن هذا الواقع فرض شكلاً من العلاقة الجديدة التي باتت تبدو غريبة. أكثر ما يقلق القائمين على الأمر في الصومال هو التعامل مع جيل جديد من السائقين الذين لا يحملون رخص قيادة السيارات، التي تم استحداثها مؤخراً، كما أن هذا الجيل لم يعرف في حياته شرطي المرور، ولا يعرف علامات الطريق، وبالتالي ينظرون إلى شرطي المرور، الذي بيده الصافرة، باستخفاف، وقد يصل الوضع ببعضهم إلى تهديده أو الاعتداء عليه. ويشير قائد شرطة المرور في مقديشو إلى هذا الوضع وقد علت وجهه ابتسامة استغراب -كما صرح لوكالات الأنباء- "يأتيني بعض مالكي السيارات التي يتم احتجازها بسبب المخالفات التي ارتكبها سائقوها ويهددوننا باستخدام السلاح إذا لم نفرج عن سياراتهم، وينظرون إلينا وكأننا عصابة استولت على سياراتهم"، ويضيف "يحدث أحياناً أن تضبط شرطة المرور سيارة بسبب مخالفة ارتكبها سائقها، فيتصل السائق بميليشيات قبيلته لتنقذه، ويقول لهم إن سيارتي تتعرض للسطو"، وتعاني شرطة المرور نقصاً شديداً في العدد والعتاد، حيث يبلغ عدد عناصرها نحو 170 فرداً فقط، ويملكون دراجة نارية واحدة لمطاردة المخالفين، وتتم الاستعانة أحياناً برجل شرطة مسلح بغرض حماية رجال المرور العزل. فالسائقون يتجاهلون التعليمات التي يصدرها رجل الشرطة، ويكون حضور رجل الشرطة المسلح مهماً عندما يتعلق الأمر بتسجيل السيارة أو وضع الأرقام الحكومية عليها، حيث يتم اصطحاب السيارة إلى مركز شرطة المرور، ويتم احتجازها حتى تدرج في السجلات الرسمية، الأمر السائد في مقديشو خلال السنوات الماضية هو أنه في حالة حدوث صدام بين سيارتين فإن صاحب السيارة الأكثر تضرراً هو الذي يطالب بالتعويض، وإن كان هو الطرف المخطئ، ولذلك نلقى صعوبة في إقناع المخطئ بدفع التعويض، وتحمل تبعات خطئه المروري، ومن الأمور المعتادة أيضاً، استخدام السلاح للهرب من الزحام المروري في مقديشو، ويقول محمود: "أحياناً يطلق السائق بعض الرصاصات من بندقيته في الهواء كي يفسح الآخرون له الطريق، ويترك الآخرين مكدسين في الشارع".الانفلات المروري في شوارع مقديشو هو نتيجة للانفلات الأمني والسياسي في عموم البلاد، وهذا ما يعطي الانطباع بأن نجاح السلطات الصومالية في تطبيق أنظمة المرور على سائقي المركبات بشكل فعال يحتاج إلى وقت طويل، المشكلة الأخرى التي تواجه شرطة المرور في مقديشو هي تسجيل المركبات، فاستيراد السيارات يتم بشكل عشوائي عبر عدد من المنافذ البحرية التي لا تخضع لسيطرة الحكومة الصومالية، ولا تحمل أي أرقام، وبناء على ذلك فإن معظم السيارات التي تسير في شوارع مقديشو غير مسجلة ولا تحمل أرقاماً رسمية، وبعضها يحمل أرقام الدول التي استوردت منها، ويتم بيعها في الأسواق المحلية مثلها مثل أي بضاعة أخرى عادية، ويستوثق المشترون من سمعة تاجر السيارات أو يطمئنون إلى قبيلته للرجوع إليها في حالة وقوع نزاع محتمل حول ملكية السيارة، ويحدث عادة أن تنتقل السيارة من مالك إلى آخر بهذه الطريقة.هذا الخبر بتفاصيله، والذي يبدو طريفاً وقد يدفع إلى الابتسامة، هو نتاج لانهيار الدولة، أتذكر وجوه أفراد الميليشيات الصومالية المختلفة وهم يركبون سياراتهم ذات الدفع الرباعي، ويحملون أسلحة مميتة ويعلو وجوههم الإحساس بالقوة والفخر بما يفعلون، هم لم يدركوا وقتها أن هذه القوة وهم ومخدر تهيأ لدفع الدولة للانهيار، إحساس وقتي بمتعة السيطرة انتهت بتمزيق الدولة إلى شرائح وأضاعت هيبة الدولة، حتى وصلوا إلى حالة يعتبرون فيها وجود إشارة مرور إنجازاً عظيماً. الحفاظ على الدولة هو تحصين للمستقبل.