لا يمكن القول إن ثمة علاقة توطدت بيني وبين الفنان الكبير سعيد صالح، لكن أذكر جيداً أنني اقتربت منه مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وقت كان النجم المتوج لما يُسمى {أفلام المقاولات}، ففي إحدى بنايات وسط العاصمة المصرية قابلته وهو يصور فيلماً، من إخراج ناصر حسين، يحمل عنوان {الزبال والهانم}، ورأيته متحمساً للفيلم، وكأنه يشارك في بطولة عمل من إخراج يوسف شاهين!

Ad

 يومها نفى بشكل قاطع أن مشاركته في {أفلام المقاولات} تمثل إساءة إلى شخصه، وأشاد كثيراً بأهمية تلك الأفلام في الحفاظ على استمرار دوران عجلة الإنتاج في صناعة السينما المصرية، بعد التهديد المباشر الذي أصابها عقب حرب تحرير الكويت (17 يناير- 26 فبراير 1991)، وراح يُحدثني عن فيلم {الزبال والهانم} الذي يدق ناقوس الخطر حيال ظاهرة مُخيفة تهدد المجتمع المصري، وهي ظاهرة انتشار المخدرات، وأثنى على فكرة الفيلم الجديدة، حيث البطل {سيد الزبال} (سعيد صالح) الذي تستغل سيدة الأعمال {سوزي} (نجوى فؤاد)، التي تروج لنوع من العطور المخلوط بالمخدرات، تردده على شقق البنايات السكنية والإدارية لجمع القمامة، وتُسند إليه مهمة ترويج تجارتها المشبوهة!

المثير أن الفيلم، الذي  انطبقت عليه مواصفات {فيلم المقاولات}، من موازنة ضعيفة لا تتعدى المئة وعشرة آلاف جنيها مصريا، ومدة التصوير التي لا تتجاوز الأسبوعين، والاستعانة بممثلين من الصف الثاني مثل: نجوى فؤاد، أحمد عدوية، سميرة صدقي، عماد محرم وسارة، تعرض لأزمة عنيفة وغير متوقعة عندما اعترضت عليه رابطة جامعي القمامة، ورأت أنه يسيء إلى سمعة أعضائها، فما كان من الشركة المنتجة سوى أن استجابت للتهديد وغيرت عنوان الفيلم إلى {الصعلوك والهوانم}!

ما أردت قوله إن سعيد صالح كان متحمساً للفيلم كعادته في غالبية التجارب التي قام ببطولتها، ورأى كثيرون أنها تنتقص من نجوميته، وتسيء إلى موهبته، بل إن ثمة من أشاع بأنه يذهب إليها مدفوعاً بالمال وحده، بينما الحقيقة أن سعيد صالح أخلص لفنه إلى درجة السذاجة، فلم يكن يُمانع في أن يقبل دوراً في فيلم على سبيل المجاملة لصديق أو صديقة، ولم يتردد في إعفاء منتج من سداد القسط الأخير بعدما صدق أنه {مزنوق}، ويمر بأزمة اقتصادية خانقة، إذ كان يتعامل بصفات وسلوكيات ابن البلد، الجدع، الشهم... {صاحب صاحبه}، ولم يقدم نفسه يوماً بوصفه صاحب الموهبة العفوية التي كشفت عن نفسها في مسرحية {هالو شلبي}، والأداء التلقائي الذي تجسد في مسرحيتي {مدرسة المشاغبين} و{العيال كبرت}، وهو أيضاً الذي لم يبخل على فنه وأسس من ماله الخاص فرقة {مصر المسرحية}، التي قدم من خلالها مسرحياته السياسية {كعبلون}، {حلو الكلام}، {شُرم برم}، {أبو نظارة} و{قاعدين ليه؟}. ووضع أيدينا على مواهبه المتعددة في التلحين والغناء على طريقة سيد درويش!

 قبل سنوات طويلة، وفي عام 1967 تحديداً، أصدر الكاتب الكبير محمود السعدني كتاباً بعنوان {المُضحكون}، احتفى فيه بممثلي الكوميديا {المعلمين} في السينما المصرية، وكانت المفاجأة عندما خصص جزءاً من الكتاب للحديث عن الشاب سعيد صالح قال فيه: {يأتي سعيد صالح في المقدمة من شلة العيال، وهو أخفهم دماً، بل هو أخف دم مضحك على الإطلاق، وهو قادر على إضحاك الطوب بحركته أو بلغته أو بإشارة من إصبعه الصغيرة، ثم هو لأنه نجا بمعجزة من عملية حشو الرأس بشعارات المثقفين، ودعاوى الأدعياء! ولأنه نبت شيطاني فهو ابن الطبيعة، وهو ممثل لأنه خُلق ليحترف هذه المهنة، وهو يشترك مع علي الكسار في ميزة هامة لأنه لا يعتمد التمثيل، لكنه يتحرك على المسرح كما يتحرك في الشارع،ويتكلم بين شلة من الأصدقاء المقربين}!

  مأساة سعيد صالح (31 يوليو 1938 01- أغسطس 2014) في رأيي أنه شخصٌ صعبٌ ترويضه، وأنه لم يترك لأحد أن يتحكم في موهبته، أو يوجهه إلى مسار يأباه، وظل على الدوام {البوهيمي} الذي لا يرضى بغير التفكير الحر المطلق سبيلاً وأسلوباً لمسيرته الفنية، و}المتمرد} الذي اختار لنفسه سلوكاً متفرداً ونمط حياة خاص، بإرادته أو بغيرها، وفي هذه النقطة يكمن سر أزمته التي تعرض بسببها للإقصاء والملاحقة والسجن والتهميش لكنه لم يرضخ أو يتراجع أو يلين، ولم يفكر يوماً في تدشين شبكة علاقات إعلامية واجتماعية تُسهم في تجميل صورته، وتعمل على تبييض وجهه، كما يفعل آخرون. والأهم أنه لم يختر الإقامة في برج عاجي، وظل حريصاً، طوال حياته، على أن يتواجد بين الناس، الذين أحبوه، وأشفقوا عليه، وتعاطفوا معه، وجاء دوره في فيلم {زهايمر} (2010) ليحرك مشاعرهم، ويمس شغاف قلوبهم، ويُبكيهم على الحال الذي وصل إليها!.