مديحة يسري... سمراء النيل: ممثلة ومنتجة تحت قبة البرلمان (29)
لسنوات طويلة كانت «النشرة الإخبارية» التي يبثها التلفزيون المصري في تمام التاسعة مساء وسيلة المواطن الوحيدة لمعرفة ما يدور من أحداث، وفي سنوات لاحقة أضيفت نشرة أخرى في السادسة مساء، للإلمام بأهم الأخبار والأحداث محلياً ودوليا، لم تكن الفضائيات قد انتشرت على النحو الذي نعرفه الآن، وبالتبعية برامج الـ «توك شو» المنتشرة على طول الفضائيات وعرضها، لذا كان الناس يتابعون النشرة التي يبثها التلفزيون المصري، كما كان لهذه النشرات نجومها الأبرز بوجوههم المحفوظة وأصواتهم المميزة.
بعد ممارستها طقسها المعتاد في المشي على الشاطئ لما يقرب من الساعة، تنفيذاً لتعليمات طبيبها المعالج، واستمتاعها بمشاهدة الغروب، مشهدها المفضل، حيث الشمس تعانق البحر وتختبئ وراءه، قبل أن تطل منه في اليوم التالي، عادت الفنانة القديرة مديحة يسري إلى الشاليه الخاص بها في حي المعمورة بالإسكندرية، أحد أهم المناطق السياحية السكنية القديمة، وأول نموذج للقرى السياحية، ويعرف بحي الأثرياء نظراً إلى الخصوصية التي يتمتع بها، وعمدت كعادتها إلى مشاهدة التلفزيون ثم تناول طعام خفيف، والخلود إلى النوم.إلا أنها في ذلك اليوم (يوليو 1998) تغيرت حياتها، وانقلبت رأساً على عقب، ففي أثناء متابعتها لنشرة التاسعة، كالمعتاد، سمعت اسمها ضمن الأسماء التي عيّنها الرئيس حسني مبارك في مجلس الشورى بالدورة الجديدة، في البداية تصورت أن ثمة تشابهاً في الأسماء ولم تتخيل أنها المقصودة، لم تستوعب مديحة الخبر، وقبل أن تفيق من صدمتها إذا بهاتفها يرن، وكان على الطرف الآخر نجلاء فتحي وزوجها الإعلامي حمدي قنديل أول المهنئين لها، فأخبرتهم أنها لم تُبلّغ رسمياً، وقد لا يتعدى الأمر تشابه الأسماء، لكن سرعان ما رنّ هاتفها، مرة أخرى، وكان الاتصال من الرئاسة لإبلاغها باختيارها نائبة في البرلمان، فانهالت عليها التهاني من أصدقائها النجوم وصناع السينما على ترشيحها للمنصب، عاقدين عليها آمالا للنهوض بالفن والدفاع عن الصناعة التي مرت ولا تزال بأزمات، فيما احتفل بها أصدقاؤها فور عودتها من الإسكندرية.
كان محمد عبد الوهاب أول فنان يتم اختياره لعضوية مجلس الشورى، وأمينة رزق ثاني فنانة يتم اختيارها للمجلس، قبل أن ترشَّح مديحة لتولي هذه المهمة، فاجتهدت في إعداد أوراقها والمشاريع التي تبغي مناقشتها في دورات البرلمان التي ستنطلق بعد أشهر ثلاثة.التقت مديحة صناع السينما للوقوف منهم على أبرز الأزمات وتصوراتهم للحلول، والدور المطلوب من الدولة ومجمل التفاصيل، ساعدتها في ذلك خبرتها القديمة في الإنتاج فضلاً عن أصدقائها المهتمين فعلا بنهوض الصناعة خصوصاً، والفن عموما، إذ رأوا في ترشيحها طوق النجاة لصناعة شاخت، وباتت تبحث عمن يضخ الدماء في عروقها مجدداً.أجندة السياسةتعاملت مديحة مع المنصب بمنتهى الجدية، وحضّرت للمسؤولية الجديدة التي ستتولاها، ليس على صعيد السينما والفن مهنتها، بل على صعيد كل ما يهم المواطن المصري ويتعلق بالطفولة والأمومة، فضلاً عن قضايا المواطن التي كانت ملمة بها، ولم تتخيل يوماً أن تناقشها عبر هذا المنبر، لذا وضعت لنفسها أجندة عمل تتضمن المسؤوليات الجديدة الملقاة على عاتقها، فرتبت الأولويات وحددت كعادتها الأهداف، سألت وتفحصت وراجعت القضايا التي تهم الفن والمواطن المصري، إذ ربما تتمكن من تحسين وضعه وظروفه، كما كانت تحلم وتتمنى.دخلت البرلمان للمرة الأولى وصعدت على المنصة، وخلفها رئيس المجلس آنذاك الدكتور مصطفى كمال حلمي، وكان من العرف أن يلقي كل عضو كلمة في الجلسة الافتتاحية، وحينما جاء دورها، ورغم تحضيرها لكلمة مقتضبة، واعتيادها مواجهة الكاميرات والجمهور، ارتبكت بشدة عندما وقفت على المنصة أمام كل هذا الجمع، ولم تجد إلا القليل من كلمات الشكر لمن منحها الفرصة لتعيش تلك اللحظة التاريخية المهمة في مشوارها الفني، فصفق الحضور لها، إذ كانت كلماتها صادقة خرجت من قلبها، فاخترقت القلوب ما زاد من توترها رغم شعورها بالسعادة.تقول مديحة عن تلك الفترة: «كان اختياري بمثابة تكريم لي وللفنانين عموماً، فتفرغت لحضور الجلسات واللجان، وفي الأعمال الفنية التي ارتبطت بها حرصت على ألا تتزامن مواعيد التصوير مع جلسات المجلس، ما يفسر اعتذاري عن أعمال كثيرة، لتفرغي الكامل للمجلس وجلساته، فأصبت بإرهاق خصوصاً إذا اضطررنا لحضور جلسات مسائية، وكانت تعقد في أضيق الحدود ولظروف محددة».تتابع مديحة ذكرياتها عن تلك الفترة: «كانت أولوياتي مناقشة قضايا السينما والثقافة والطفولة والأمومة، وغيرها من الموضوعات التي تمس واقع الحياة اليومية للمواطنين، كما أشرت سلفاً، ورغم خوفي في البداية من طبيعة المجال الجديد الذي دخلته، لكن الأجواء داخل المجلس كانت إيجابية، وشاركت في لجان الثقافة، والإعلام والسياحة والآثار، وأديت العمرة كل عام مع أعضاء المجلس».وتتابع مديحة تقييمها للفترة التي قضتها في البرلمان: «كانت لديَّ أفكار أرغب في تنفيذها خلال المدة التي قضيتها بالبرلمان للارتقاء بالفن، وللأسف القليل منها تم تنفيذه،على سبيل المثال: تخفيض الضرائب المفروضة على الملاهي، إصدار قرار بمنع خروج النيغاتيف الخام للأفلام السينمائية القديمة لحمايتها من التلف، زيادة الموازنات المخصصة لمؤسسات السينما».تضيف: «كنت مشغولة خلال تلك الفترة بالسينما، واقترحت على وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني تأسيس متحف للسينما المصرية يستعرض تاريخها والمراحل التي مرت بها، لكن للأسف لم يستجب لاقتراحي، كذلك اقترحت في المجلس أن تستثمر الحكومة الأموال في بنك للسينما برأس مال 300 مليون جنيه، مهمته دعم المنتجين السينمائيين وتوفير أموال قروض لهم للإنتاج السينمائي، ورغم حماس البعض لهذا المشروع، وسعادة صناع السينما به، إلا أن المشروع توقف للأسف مع خروجي من البرلمان».تستطرد في حديثها قائلة: «حزنت لأن صناعة السينما في الصين وإيران، وهي دول بدأت بعدنا بكثير، أصبحت تأخذ جوائز بالمهرجانات السينمائية، فيما نحن لا نجد ما نشارك به، ولو حدث وشارك أحدهم لا يتمكن من المنافسة، لضعف مستوى الأفلام «تقنيا» وليس إبداعياً، فمعامل التحميض وآلات التصوير ووحدات المونتاج والمكساج عانت خللا، ما يضعف فرص أي أفلام، لذا اقترحت أن تشارك الحكومة ممثلة بوزارتي الإعلام والثقافة بنسبة 25% من الإنتاج في الأفلام السينمائية الجديدة مقابل عرضها على شاشة التلفزيون لفترة محددة، وهو الأسلوب الذي يطبق في دول العالم آنذاك، فكانت هذه الدول تقدم دعماً يصل إلى 40% أحياناً، لتتفوق في فنونها، لكن، للأسف، لم يلق هذا الاقتراح قبولا من الحكومة أيضاً، وحُفظ في الأدراج.خرجت مديحة من تجربة البرلمان أكثر ديبلوماسية في علاقاتها مع الآخرين، واكتسبت علاقات مع سياسيين لم تكن تقابلهم إلا في المناسبات أو تراهم في التلفزيون، فاعتبرت نفسها محظوظة خصوصاً بعد تكريم الرئيس الأسبق حسني مبارك لها ضمن المكرمين بعد انتهاء الدورة البرلمانية.فاعل خير لم تقتصر حياة مديحة يسري، في تلك الفترة، على البرلمان، الذي تنعقد جلساته ثلاث مرات أسبوعياً، بل وزعت وقتها بين المجلس والمناقشات السياسية الساخنة والجمعيات الخيرية التي انضمت إليها، من بينها: لجنة الصداقة بمستشفى قصر العيني، جمعية مكافحة الإدمان، لجنتا الثقافة والبيئة بجمعية كتاب وإعلام الجيزة وغيرها من الجمعيات.في تلك الفترة تعرفت مديحة إلى هبة، طفلة لم تتجاوز العامين في جمعية «ابنتي»، وواحدة من بين عشرات الأطفال الذين تحرص مديحة على التقرب منهم بمجرد رؤيتهم، إلا أنها شعرت أن قلبها تحرك من مكانه عندما شاهدت تلك الطفلة تحديداً، فتعلقت بها وقررت تبنيها خصوصاً أنها لا تجد من يؤنس وحدتها منذ وفاة ابنها عمرو.أنهت مديحة إجراءات التبني في وقت قصير للغاية، حاولت أن تأخذها إلى منزلها كي تؤنس وحدتها، إلا أن قانون التبني حال دون تحقيق هذه الأمنية، إذ يشترط أن تتبنى أسره تضم أباً وأماً لضمان أن يلقى الطفل رعاية سليمة، ولأن مديحة تعيش بمفردها لم تستطع تبني الطفلة، وراحت تزورها في دار الرعاية كل أسبوع وبشكل منتظم، وتغرقها بالطعام واللعب والحلويات والملابس، تحضنها وتحاورها وتقضي معها أجمل الساعات أسبوعياً، ولاحقاً سمح للطفلة بأن تخرج برفقتها، فكانت مديحة تأخذها إلى أجمل الأماكن.رغم ظروف مديحة الصحية لاحقاً، إلا أنها، حتى كتابة هذه السطور، تتابع رعايتها مادياً ومعنوياً، وكلما سمحت ظروفها تزورها، وأوصت لها بما يضمن لها رعاية وحياة كريمة بعد رحيلها، إذ وجدت فيها العوض بعد رحيل ابنها عمرو وتذوقت معها مجدداً طعم الأمومة. ومثلما أحبت مديحة ابنتها الجديدة تعلقت هبة بها، فنجحت وتفوقت في دراستها، كما وعدت ماما مديحة، تتصل بها يومياً لتطمئن عليها، تشكو لها وتسمع منها وتحاول إضحاكها.تقول مديحة: «تتصل بي هبة يوميا لتطمئن عليَّ، وتزورني في منزلي باستمرار وكلما سمح لها بذلك، وأذكّرها دائماً بما كانت تقول لي وهي طفلة تتلعثم في الكلام: «أنا شاطرة علشان أنا بنت مديحة يسري، ولازم أبقى من الأوائل على طول علشان ماما تبقى فرحانة بيا، أنت مبسوطة يا ماما، بتحبيني يا ماما».وداع الفن«الفرح» (1999) كان آخر أعمال مديحة السينمائية، مع ميرفت أمين وحسن حسني، فودعت به السينما قبل أن تتخذ قرار اعتزالها نهائياً بعد 10 سنوات، ربما لأنها لم تعد قادرة على العطاء الفني كما يردد البعض، وربما لأنها لم تجد ما يحمسها للعودة إلى الفن السابع.تابعت مديحة الإنتاج السينمائي والفني عموماً، وشاهدت أفلاماً في عروض خاصة، وأخرى في مهرجانات سينمائية، وأبدت آراءها الصريحة فيها، وهي أن معظمها «عمره قصير»، ولن يستمر طويلاً في ذاكرة الجمهور الذي يقبل على مشاهدتها للضحك فحسب، ولن يتذكرها بعد خروجه، وربما يسقطها من حساباته، لذا رفضت العروض التي تلقتها للعودة، وفضلت الحفاظ على تاريخها والتركيز في البرلمان والنشاط السياسي حتى انتهاء الدورة البرلمانية التي شغلتها مديحة لمدة سبع سنوات.صورت مديحة في تلك الفترة مسلسل «يحيا العدل» مع ميرفت أمين ومصطفى فهمي، وجسدت شخصية وجدان هانم التي تشاهد الأزمات التي تواجهها ابنتها بعد وفاة زوجها والمافيا التي كان يتعامل معها، وتحاول مساعدتها، فيما اتفقت مع المخرج محمد عبد العزيز على تصوير المشاهد الخاصة بها اعتباراً من الثالثة بعد الظهر وحتى منتصف الليل حتى لا يتعارض عملها في المسلسل مع وجودها في البرلمان، إذ كانت تخرج من جلسة البرلمان في الثانية ظهراً وتتجه إلى بلاتوه التصوير، ورغم إجهادها، لم تتأخر يوماً عن حضور الجلسات والتفاعل معها، أو عن أدائها لمشاهدها بكفاءة تحسد عليها.لم تكن مديحة تشعر بالوحدة في حياتها رغم تقدمها في العمر، أكثر ما أسعدها تكريمها في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» عامين متاليين (2001 و2002)، الأول عن أدوارها الرومنسية في السينما، والثاني عن مجمل أعمالها الفنية كفنانة أثرت السينما المصرية ومكتبتها بأكثر من 100 عمل سينمائي، تنوعت أدوارها فيها من الحبيية إلى الزوجة والأم والجدة.أيضاً ترأست في تلك الفترة «مهرجان أوسكار السينما المصرية» و»أوسكار الأغنية المصرية»، وحرصت على إقامتهما بموعدهما وبانتظام وجدية، فكانت تشاهد الأفلام السينمائية التي تقدم كل عام، لكنها لم ترضَ عن مستواها، كذلك الأغاني المصورة. حاولت عبر مشاركتها بتلك المهرجانات الدفع باتجاه تقديم فن جيد، وتشجيع المواهب الجديدة، إلا أنها لم توفق.وعن تلك الفترة تقول: «حزنت على المستوى الهابط للأفلام والأغاني، فلم أكن أشعر بالرضا عنها، وحاولت مراراً مناقشة صناعها لتحسين مستواها ولكن دون جدوى، ذلك أن أغلبها اعتمد على الإغراء والابتذال».رفضت مديحة المشاركة في أعمال فنية تتناول العنف في الشارع، فلم تجد سوى الإذاعة لتقديم رسالتها، وذلك بعدما تلقت اتصالا من إذاعة البرنامج العام للمشاركة بمسلسل «نجمات في سماء الجامعة»، وجسدت شخصية الكاتبة نعمات أحمد فؤاد، تروي من خلالها الشخصيات التي أثرت في تاريخ الجامعة، وتخرجت فيها بعد كفاح طويل، وقد شاركها في البطولة محمود ياسين، ليكون ذلك المسلسل أحد الأعمال الإذاعية المحدودة التي قدمتها في مشوارها الفني.حول هذه التجربة تقول مديحة: «كنت أبحث عن أعمال لها هدف ومضمون، لذا لم أتردّد في قبول المسلسل الإذاعي، فلا يهمني عدد المستمعين له بقدر ما تشغلني الرسالة النبيلة الموجودة فيه».أنهت مديحة يسري مشوارها الفني بعدما قررت الاعتزال في 2008، مكتفية بما قدمته في مسيرتها الفنية، بينما فشلت محاولات زملائها لثنيها عن قرار الاعتزال رغم العروض التي قدمت لها.