أنت تقرأ نصاً يؤلّب فاعليةَ العقل أو الروح. يملأ حيزاً في كيانك العقلي والروحي. يجعلك تشعرُ بإضافةٍ في وعيك تُقبل عليك من الكلمات، وبذلك نتحمس لتكرار التجربة في قراءة نص آخر، أو مزيد من النصوص، أحياناً يحدث العكسُ تماماً. فأنت تقرأ نصاً تُحسّ به وهو يُطفئ فاعلية العقل والروح تلك. يُفرغ من كيانك العقلي والروحي عُدةً كانت تشغله، ويجعلك تشعر بفراغ مفاجئ يحتل قدراتِ وعيك. وتحار كيف يمكن للعقل أن يمتلئ ويفرغ بهذه الصورة. وهذا يحدث مع قراءة كتب التنظيرات النقدية في السنوات العشرين الأخيرة. على أني لم يحدث أن قرأتُ وواصلتُ القراءةَ في نصوص تشفط من عقلي مادة المعنى التي هي ركيزة الوعي، وتملأ الفراغ الذي تخلّفه بتهويمٍ لفظي يشبه رجلاً يريدُ أن يقطفَ تمراً من نخلة سامقة، فتراه يحثّ التراب أياماً وليال حول النخلة حتى يطمرها إلى أعلاها، ثم يعلو التراب بأطرافه الأربعة. لم يحدث أني قرأت وواصلت القراءة في كتاب أو مقال يُخضعني لمسعاه التهويمي هذا. صرتُ بفعل الخبرة ربما، وربما بفعل مخيلة لُدغت من جحر، أرى وراء النص صوراً شتى لكاتبه: نفّاجاً، يُلقي عليك المصطلحات التي لا يُحسن ترجمتَها ويتوهّمها معرفةً. ويتسلّطُ عليك بالجمل المُغلقةِ المُلتبسةِ يحسبها عمقاً. ويحرصُ أن يُريكَ جدَلَه الدؤوب مع منظري النقد الغربي الغائبين، الذين لا تعرفهم. ويكبحُك بلِجامِ الخوفِ من تهمة الجهل. ثم يُشعركَ بأنه ليس وحده فتنفرد به، بل هو واحدٌ من عصبة مرصوصة كحزمة القصب. والدليل ثبتُ مراجعه الكثيرة آخر الكتاب، التي تُفشي الرائحةَ ذاتها. عصبةٌ قوّضت قُدراتِ الكائن على الفهم داخل مؤسسات المعرفة جامعةً كانت هذه المؤسسة، صحافةً أو مؤتمرات. ولكنهم يعجزون عن إدراك أنهم ظاهرةٌ فاسدةٌ فسادَ الثقافة العربية، التي تنحدر منذ نصف قرن، وهي مخدّرة في أحضان المؤسسة العربية الرسمية وغير الرسمية. يعجزون عن سبْرِ غور السطحية التي تميز نثرهم، وتداعيات فكرهم التي لا صلابةَ فيها فتُلمس.
صرتُ أعرفهم حين يُطلّون عليّ، تسبقهم طلائعُ قاموسهم النقدي، الذي لم يتفقْ رأيان على مُفردةٍ واحدة فيه. أشمُّ رائحةَ الطلائع هذه فيسهل عليّ تجنبها، ولك أن تتجنبها معي باليسر ذاته إذا ما قرأتَ مفردات: النسق، الشعرية، التماهي، الانحياز، الخطاب، الفضاء، البنية، البأررة والتبئير، الحقل التناصي والمناصية، السرد والسرديات والسرود، المسكوت عنه، التفكيك...الخ. ولك أن تعرف أن هذه المفردات لن تُقبل عليك منفردةً، فتفهمها بيسر، بل تُقبل عليك مثل خرطوش الصياد. فمصطلح التناص ينتسب إلى عائلة "التناصية"، "التعالي النصي"، "الميتانصية"، "التجاوز النصي"، "المعمارية النصية"، "المنانصة"، "النص المحيط"، "النص الفوقي"،"المناص والمناصية"، "وإن هناك الوضعية المكانية، والزمنية، والجوهرية، والتداولية للعنصر المناصي"...الخ (هذا الإشراق اللفظي أخذتُه من صفحتين أو ثلاث من محاضرة في مؤتمر عن السرد يشترك فيه عشرات الأساتذة لا تختلف لغتهم عن لغته.) ثم ان هذا الخرطوش اللفظي حين ينتسب فسينتسب لسياق لا تُمسك من خيطه أو خيوطه أولاً ولا آخر كهذا السياق:"...أما الفرضية الثانية التي تجعل المعنى محايثاً للنص، فإن سيرورتها الافتراضية ستنتهي إلى اختزاله مجسداً في بنية ستكون بالضرورة محايثة للنص، إي إنها بنية أنطولوجية. ويكمن المشكل مع هذه الفرضية، في كيفية الوصول إليها انطلاقاً من جعلها هي نفسها وسيلة. ولا يختلف الأمر مع الاتجاهات التي تعترف بوجود معنى محايث للنص، ذلك أنها تحول إجراءات الاختزال ـ وإن كانت تمتلئ حدوده ابالمعاني المستنبطة من موضوع النص ــــ إلى إجراء إبيستيمولوجي. وينتج عن ذلك عزل النص عن بنيته المعنوية، الشيء الذي يقود إلى تحول إجراءات الاختزال إلى مجرد إطار، أي إلى أشكال مادية متناسقة وفق علاقات (عديمة الشكل) خاضعة لقيود الإجراء الإيبيستيمولوجي... الخ" (ألم تشعر معي بالإفراغ العقلي؟).النسبة الكبرى من الإنشاء النظري والنقدي يسلك هذا السبيل. والمدهش أن كل تضاعف في أعداد المنظرين يقابله نقصان في عدد الشعراء، حتى ان هناك بلداناً عربية خلت تماماً من الشعر والشعراء، إلا ما توفره نشاطات الإعلام في الصحافة والمهرجان ودور النشر التي تتقاضى أجورها مسبقاً.
توابل
تناص ومُنانصة ومَناصية
21-11-2013