عندما تكون أولويات الميزانية العامة وتوجهاتها غير عادلة، فإن حديث الحكومة عن ترشيد الإنفاق أو إلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية يصبح حديثاً مضللاً ومنحازاً أيضاً، فما يؤخذ من أفواه الأطفال تحت ذريعة "الترشيد" سيذهب مباشرة إلى جيوب كبار الأثرياء. في هذا السياق يأتي تصريح وزير المالية قبل أيام عدة، الذي ذكر فيه أن "الفاتورة الحالية لرواتب الحكومة مرتفعة جداً بينما تستنزف تكاليف دعم السلع الأساسية ميزانية الدولة"، إذ من الواضح أن الوزير يتحدث هنا عن رواتب صغار الموظفين وليس عن مزايا ومكآفات وبدلات كبار المسؤولين في الدولة، والتي تحتل الجزء الأكبر من الباب الأول في الموازنة العامة للدولة.

Ad

كما أن الوزير يتحدث عن دعم الخدمات الأساسية أي الضرورية وليست الكمالية، بينما لم ينطق بكلمة واحدة عن أوجه الدعم الحكومي الأخرى التي يفترض أن تتوقف على الفور مثل دعم الديزل الذي لا يستفيد منه المواطنون بل يُسرق يومياً ويُهرب للخارج (دعم الديزل يكلف قرابة المليار دينار سنوياً، وهو أعلى بكثير جداً من تكلفة بنود الرعاية الاجتماعية وخفض تكاليف المعيشة)، ودعم الكهرباء والماء للمجمعات التجارية والصناعية الكبيرة (فلس واحد للكيلوواط مقابل فلسين للمنازل)، وأسعار أراضي الدولة وأملاكها التي مُنحت منذ عقود طويلة لمجموعة قليلة بأبخس الأثمان، والآن تنوي الحكومة تعديل قانون "بي أو تي" من أجل الاستمرار في الاحتكار واستنزاف المال العام، فضلاً عن بعض المناقصات المليونية المُفصّلة، والمحافظ المالية المليارية سواء العقارية أو الاستثمارية التي وظفتها الهيئة العامة للاستثمار منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 لإنقاذ عدد قليل من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة.

ليس ذلك فحسب، بل هناك مؤسسات حكومية كثيرة تشغل منذ عقود مباني مؤجرة بتكاليف مالية باهظة تذهب إلى جيوب كبار ملاك العقار، علاوة على تشييد بعض أجهزة الحكومة مباني فاخرة جداً تكلف ملايين الدنانير مثل مبنى البنك المركزي الذي ينافس كما أشارت "الطليعة" في عددها الأخير "أفخم وأرقى الأبراج في الكويت، ولم يرق للمسؤولين عن البنك جلب أثاث للمبنى الجديد من داخل الكويت، وفضلوا تأثيثه من الخارج وبطراز ونوعية معينين من الأثاث، حيث سافر وفد برئاسة محافظ البنك المركزي إلى المملكة المتحدة لمشاهدة عدد من معارض الأثاث التي لم تعجبه، فقررت اللجنة، الخاصة بتجهيز المبنى في يناير الماضي، السفر مرة أخرى إلى لندن ومدينة ميلانو الإيطالية لانتقاء الأثاث... ولا يعرف حتى الآن متى ستنتهى المهمة؟!". وكم ستُكلف الميزانية العامة للدولة؟!

كما تشير "الطليعة" أيضاً إلى أن "هيئة أسواق المال تستأجر في "برج أحمد" وفي الوقت ذاته وقعت منذ مدة عقد إيجار في برج الحمراء (أغلى الأبراج في الكويت) رغم أنها لم تنتقل إلى هناك بعد، أي أنها تدفع مبالغ ضخمة مقابل استئجار مساحات لم تستغلها"!

ما معنى هذا؟ معناه، وبكل بساطة، أنه بالإضافة إلى ما سيترتب على إلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية أو تخفيض بنود الإنفاق الاجتماعي من انخفاض مستوى معيشة فئات شعبية واسعة، فإن عوائد إلغاء الدعم، الذي "يُهددنا" به وزير المالية بين الفينة والأخرى، ستُوجه في غير أغراضها الصحيحة ولمصلحة من يفترض أنهم يدعمون الميزانية العامة للدولة من خلال دفعهم للضرائب على الأرباح الهائلة التي يراكمونها منذ عقود وبدعم سخي قدمته وما زالت تقدمه لهم الدولة.