بين يديّ كتاب صغير في حدود مئتي صفحة، تشير معلوماته الأولية إلى أنه الطبعة الرابعة والعشرون خلال ست سنوات! ولا أعتقد أن هناك كتاباً معاصراً يمكن أن يتحقق له هذا الانتشار والقراءة، دون أن يكون في موضوعه ما يمس وجدان الإنسان، أو يلامس قاع روحه وهمّه اليومي.

Ad

 كتاب (تاكسي) لخالد الخميسي يبدو كأنه الترمومتر الذي يقيس نبض العيش اليومي، في (قاهرة) مكتظة بالهمّ والتلوث والضجيج. وهو أيضاً رحلة طريفة/ مرهقة، أشبه بكوميديا سوداء ترسم الصراع (الشوارعي) الذي يخوضه (الغلابة) من سُوّاق التاكسي المصريين جداً حدّ الشقاء. ولأنهم ضالعون في تفاصيل المهنة، وضالعون في مفردات الشارع وهمومه، وضالعون أيضاً بالشجار اليومي مع الرزق، باتوا يمتلكون تلك الرؤية النافذة لمشاهد النقص والفساد والفقر وغلبة الشقاء.

 سمّى الخميسي كتابه (حواديت المشاوير)، وجعل من سيارة الأجرة كوناً صغيراً متحركاً، يسبر به قلب زحمة مكانية ونفسية بلا حدود، ويكشف عبره نفوساً مكتظة برغبات البوح، حيث الكلام يأتي تلقائياً في عاميته المفرطة، وفي فوحانه بالتهكم والتنكيت والتبكيت.

إن طبقة السوّاق التي جعلها المؤلف مادة لكتابه مثّلت الأبطال الحقيقيين لواقع معيشي وحياتي شديد الصدق حدّ الملامسة، وكان هؤلاء الأبطال بتنوّع شخصياتهم يعكسون الوجوه المتعددة والنمطية للشخصية المصرية في تفاعلها مع مجريات العيش. وعلى الجانب الآخر من المعادلة جعل الكاتب من نفسه تلك الشخصية التي تحسن الاستماع والصبر الجميل، وتحفّز على الفضفضة، وتحسن إطلاق الأسئلة، ثم تَشْخُص بالحكاية أو الحدوتة بحيادية مطلقة، وتمعن بالإصغاء.

 إن القارئ لهذا الكتاب الظريف، الطريف، الموجع، سوف يجد كيف يمكن أن يُختصر الواقع المصري الآن من خلال ألسنة العامة من الناس. وكيف يمكن أن يمتلك ذلك الكادح البسيط  تلك الرؤية النافذة والرأي الصريح في الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي (في عهد مبارك وما بعده). وكيف يعاني الناس الغلابة من انهيار البنى التحتية والبنى النفسية في عاصمة على هذا الجانب من التلوث والارتباك والفوضى، هذه بعض من حواديت سائقي التاكسي:

«بيقولوا والله أعلم إن مفيش حد خالص كان عايز يدخل الانتخابات... لعبة مش بتاعة حد غير الحكومة... يدخلوها ليه؟ الحكومة عايزة تبان قدام الأمريكان إنها ديمقراطية عشان الدعم ما يقفش والاقتصاد ما ينهارش، فبتعمل المسرحية دي، وهو أصلاً مفيش ممثلين من النوع ده في المسرحيات الهزلية. أصل مسرحيات عادل إمام باخت، والشعب بطّل يتفرّج، وهنيدي أفلامه باظت... قالوا نعمل مسرحية الصيف... نضحّك بيها الناس بدل ما همه مكلضمين».

«أنا مش فاهم عايزين مننا إيه؟ شغل وما فيش... قلنا نشتغل أي حاجة... واقفين لنا بالمرصاد في أي شغلانة... عمالين ينهبوا ويسرقوا ويرتشوا وآخرتها إيه مش عارف؟ أنا زي ما بصرف كل يوم فلوس على البنزين، لازم أحط فلوس رشاوي للمرور يوماتي والله... الحكاية إن وأنا ماشي جالي sms  بصيت لقيته نكتة فضحكت قوي وأنا داخل اللجنة، افتكروني بتكلم في الموبايل! نكتة ودتني في داهية!

أنا: وكانت إيه النكتة دي؟

السائق: نشكر كل من قال نعم في الاستفتاء ونخص بالشكر أم نعيمة لأنها قالت نعمين. وانفجرنا معاً في الضحك».

«أنا ولادي حيجيبولي نقطة... الواد الحيلة في ستة ابتدائي، والله ما بيعرفش يكتب اسمه... تقولي مدرسة... آدي يا سيدي التعليم المجاني... ما تاخدش حاجة... والمصيبة إن إحنا كمان بندفع. التعليم لكل الناس ده يا أستاذ كان حلم جميل زي أحلام كتير راحت وما فضلش منها غير الشكل والمنظر... على الورق التعليم إجباري لكل الناس... ولكن الحقيقة الأغنياء بيتعلموا وبيشتغلوا وبيكسبوا، والفقراء ما بيتعلموش حاجة وما بيشتغلوش حاجة وما بيكسبوش حاجة... ومتلقحين كلهم مش لاقين لا شغلة ولا مشغلة».

«البني آدم في مصر زي التراب في كأس مشروخ. الكأس سهل يتكسر، والتراب يطير في الهوا... لا يمكن تعرف تلمّه وما لوش عوزة أصلاً تلمه،  لأنه شوية تراب وطار، البني آدم في البلد دي شوية تراب طايرة، ما لهاش سعر. أنت عارف الناس اللي ماتت في العبّارة، كتير منهم مش عارفين يطلعولهم شهادات وفاة لغاية دلوقتي، أوراقهم الرسمية يا عيني غرقت معاهم... عك في عك، البلد دي حرام والله».