يزن حلواني: جدراني تحكي بيروت الحقيقية!

نشر في 17-01-2014
آخر تحديث 17-01-2014 | 00:02
هو فنان خارج ما هو متعارف عليه. ليس له معرض يؤوي أعماله. على الأقل ليس بعد، لأنّ عوده طري فهو لم يتجاوز العشرين ربيعاً. يأبى أن يحصر أعماله بمساحةٍ جغرافية ضيقة ولا يأسرها حكماً بالنخبة. بل هو نقيض ذلك، هوسه الفعلي تحرير المجتمع من نخبةٍ تتحكم برقابها بفعل واقع فُرض فرضاً. أولئك الذين يغتصبون الجدران بصورهم الانتخابية ويتركونها تفعل فعلها من تشويهٍ آثمٍ بفعل التقادم. معركته هو اقتلاع هذه القباحة عن بكرة أبيها. يمحو الجدران المشوّهة بصور المرشحين أو بفعل المشاغبين العابثين ليخلع عليها رداءً هو أقرب إلى نسيج بيروت القديمة، بيروت الفاتنة كما رسمتها حكايات الأجداد في خياله الفتيّ، بناسها الحقيقيين، وثقافتها غير المعلّبة، بيروت فيروز وعاشقة محمود درويش واسمهان بيروت سمير قصير بفكره وروحه النضرة الحالمة بغدٍ أفضل. ولكنها أيضاً بيروت علي عبد الله مشرّد الحمرا الذي توفاه الله منذ زمن قريب وكان طلاب الجامعة الاميركية في بيروت يتصدّقون عليه بمأكلٍ أو مشرب أو ببضعة سجائر يحارب بها مرارة زمنٍ تركه معدم الحال مكسور الخاطر على قارعة طريقٍ بارد. لا تعرف اسماً لهذا الفنان. ولكن لا بدّ من أنك تساءلت أكثر من مرة عمّن رسم فيروز على درج الجميزة بهذا الجمال الفاتن وهذه الحروف العربية المتناثرة بمشهدٍ موسيقي لافت. لا بدّ من أنك تساءلت عن الأنامل التي رسمت محمود درويش وذيلت العمل بأجمل ما قال: «وعلى هذه الارض ما يستحق الحياة». لا بد من أنك تساءلت عمّن يحتفي علناً ببيروت الحياة؟ ببيروت الجمال الهادئ ومنارة الفكر والفن الخالد؟ من ينفث فيها الروح في زمن الموت والاغتيالات وسيارات الموت الأسود؟ الجريدة تساءلت مثلك وسألت واستقصت وعادت إليك بجوابٍ يشفي الغليل: إنّه يزن حلواني.

كيف دخلت مجال الرسم؟

في الرابعة عشرة عمري. كنت أستمع إلى أغنيات بالفرنسية والإنكليزية، خصوصاً {الهيب هوب} و{الراب}، تتحدث عن فن الغرافيتي باعتباره جزءاً من ثقافة الأوروبيين وحضارتهم، وقد تطور هذا الفن على مر السنوات. في البدء كان الفنان يكتب اسمه على الجدران في الطرقات والأماكن العامة، أردت أن أكون مثله. بشكل أوضح، أردت أن أكون مشاغباً. لكن مع الوقت شعرت بأنني لا أريد ذلك، ففي أوروبا وأميركا أن تكتب اسمك على الجدران في الأماكن العامة من دون أن تمسك بك الشرطة إنجاز بحدّ ذاته، أما في لبنان فمعظم الجدران ليست نظيفة أصلا والشرطة لا تتعاطى معك وهي منشغلة بأمور أخرى والتخريب قائم من السلطة قبل الشعب، لذا رسم اسمي على الجدران ليس تحدياً لي. كذلك لا معنى لعملي في حال استنسخت هذا الفن من الغرب، لذا قررت التطور.

كيف بدأ التغيير؟

في السابعة عشرة من عمري، مللت رسم اسمي على الجدران فتعلمت الحروفية (فن الخط) لأني لم أعد أريد نقل حضارة لها علاقة بالغرب. استعنت بكتاب  يتضمن أصول الحروفية وركزت على هذه الناحية وطوّرت نفسي فيها وابتعدت عن فكرة المشاغبة، فاستخدمت مالي الخاص لإزالة إعلانات قديمة أو صور سياسيين عن الجدران في الشوارع، من ثم طليتها ورحت أرسم عليها. بعد تنفيذي أكثر من عمل من هذا النوع تلقيت ردود فعل إيجابية فتشجعت للاستمرار.

ما  العمل الأول الذي نفذته؟

كتبت اسمي {يزن} وكنت في الخامسة عشرة من عمري، لكن عملي الحروفي الأول كان من خلال مباراة في الفنون حول موضوع الهجرة (2010)، استخدمت فيها الخط الكوفي وكتبت {أناديكم}، جملة حملت رسالة إلى المهاجرين بضرورة العودة إلى الوطن، ففزت يومها بالمرتبة الأولى، ما شجعني أكثر.

من ثم بدأت رسم لوحات حروفية بشكل أكبر، وفي كل مرة أتطور أكثر من المرة السابقة، وتختلف أعمالي في النوعية والشكل. رسمت في شارع عبد الوهاب الإنكليزي في منطقة الأشرفية باباً على شكل كلمة بيروت حاز على إعجاب الجمهور.

ألم تواجه مشاكل مع الشرطة؟

يكون عملي أحياناً بمعرفة بلديّة المنطقة، وفي حال لم يكن لدي إذن وسألتني الشرطة عما أقوم به، أفسّر لها بأنه ليس شغباً بل عمل فني بحت.

هل صودف أن تعرضت للتحقيق؟

مرة واحدة عندما كنت أرسم صورة الصحافي الشهيد سمير قصير على جدران في منطقة الكارنتينا. فتش الشرطي أغراضي وانتزع مني هويتي واقتادني إلى المخفر.

والمضحك هنا أنّ الشخص الذي يتولى التحقيق غالباً ما ينتهي بسؤالي عما إذا كان بوسعي رسمه. وطبعاً كنت أعده بذلك.

هل كانت لديك فكرة سابقة عن رسم الوجوه؟

طورت نفسي في هذا المجال وبين صورة سمير قصير وبين صورة فيروز مثلا التي رسمتها بعد سنوات في منطقة الجميزة في بيروت، حصل تطور واضح في التقنية والألوان... يقول لي البعض: {عندما ننظر إلى الصورة نشعر بأننا نسمع صوت فيروز وهي تغني، إلا أن الحروف العربية الموجودة في الصورة غير مترابطة ولا معنى لها}. هنا أريد التوضح أنني أستخدم الحروف ليس لكتابة مقطع ما، إنما لجمالية الشكل وليكون معبّراً فيشعر المشاهد أن الصورة حقيقية، فمثلا لسنا بحاجة إلى أن نكتب كلمة {حب} لنعبّر عن {الحب}.

لماذا اخترت رسم سمير قصير؟

لأنه استشهد بسبب أفكاره وفي سبيل لبنان وحريته، وأنا يهمني الدفاع عن حرية التعبير. من غير حق أن تقتل أي جهة شخصاً أو تعاقبه لمجرد أنه يعارضها في الرأي، إضافة إلى أن صديقي الذي يساعدني أحياناً في الرسم هو ابن شقيق سمير قصير، وفي ذكرى استشهاده قررنا أن نرسم صورته.

ألم تخف أن يحسبك البعض على فريق 14 آذار؟

لا أنظر إلى سمير قصير على أنه ضمن هذا الفريق، ومن يفسر رسمي له من هذا المنظار لم يفهم رسالتي. سمير قصير يعني حرية التعبير التي يجب أن نناضل جميعنا في سبيلها.

أخبرنا عن صورة علي عبدالله.

هي الثالثة بعد سمير قصير وفيروز. أنا طالب في الجامعة الأميركية في بيروت أتخصص في هندسة الكومبيوتر، وأثناء ذهابي وإيابي كنت أصادف هذا الرجل الفقير في شارع بليس الموازي لجامعتي، وكثيراً ما كنت أترك، كما زملائي، نقوداً في أحد المقاهي ليقدموا له القهوة والطعام. أثّر بي مشهد هذا الرجل، وبعد وفاته نظمنا حملة لمساعدة المشردين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأسسنا جمعية علي عبدالله.

ما الرسالة التي أردت إيصالها من خلال رسمك له؟

لا يجب أن نرى الناس يموتون على الطرقات لنبدأ بالمساعدة، بل أن يكون ذلك تلقائياً، من هنا كتبت إلى جانب الرسم {غدا يوم أفضل}.

ماذا عن صورة أسمهان وهل أنت من المعجبين بفنّها؟

بصراحة لا أعرف سوى أغنية {ليالي الأنس في فيينا}، لكن حين أمحو صورة السياسيين الذين لا يعملون شيئاً لمصلحة الوطن عن جدران المدينة، أبحث عن صور إيجابية وجميلة ويحبها الناس لاستبدالها، إلى جانب تاريخها المهم. فكرت أنه من الأفضل أن تتربى الأجيال الجديدة على مشاهدة هؤلاء الذين كرسوا حياتهم لتقديم فنٍ راقٍ يبهج القلوب، ليكبر الطفل أو المراهق وهو يتمنى أن يصبح مثل محمود درويش، وليس مثل هذا السياسي أو ذاك. لست ضد السياسة إنما ضد السياسيين الذي يبدّون مصالحهم ومصلحة جيوبهم على مصلحة وطنهم ومواطنيهم.

رسمت محمود درويش، هل تهوى الشعر؟

أقرأ قصائده منذ كنت في المدرسة، خصوصاً أنه كان محور الأحاديث على الدوام، وأنا من أشد المعجبين بأغنيات مارسيل خليفة التي لحنها من شعر درويش.

كيف تؤمن المال لتقوم بمثل هذه الرسومات؟

أنفّذ اليوم رسومات غرافيتي لبعض شركات الإعلانات، كذلك طلبت مني السفارة البريطانية رسم لوحة بورتريه للملكة إليزابيت لمناسبة عيد ميلادها، وهي موجودة في السفارة البريطانية. أشبه نفسي بـ {روبين هود} الذي كان يأخذ المال من الأغنياء ليقدم للفقراء، أتقاضى المال من شركات الإعلانات لأوظفه في رسومي على جدران المدينة.

ألا تقدم البلديات لك الدعم؟

البلديات تعقّد عملي. تتطلب موافقة البلدية على تزيين جدران إجراءات لا نهاية لها، وكأن القيمين على هذا البلد لا يريدون لأبنائه أن يمشوا وفق القانون.

ماذا عن أسعار لوحاتك؟

ترتبط بوضع البلد وبالعرض والطلب. مع الوقت اكتشفت أن ثمة حدّاً معيناً من الأسعار يؤمن لي الطلب على لوحاتي. لكن الرسومات على الطرقات مجانية.

هل تختصر حكايتك مع الغرافيتي بأنها قصة نجاح؟

لا أعرف لأنني لم أنته بعد وما زلت في بداية الطريق.

هل ثمة من يتأثر بك؟

ينسخ البعض عنّي ويستخدم الغرافيتي بالطريقة نفسها، لكن هذا الأمر لا يزعجني بل يعني أنه معجب بما أقدمه.

هل يستطيع الهاوي الذي لا يملك المال القيام بمثل هذه الأعمال؟

في المرحلة الأولى لا يحتاج الهاوي سوى إلى بخاخات رش، وحين يمتلك الموهبة ويستطيع أثبات نفسه ويبدأ العمل هنا وهناك، يستطيع توظيف ما يجنيه من المال في سبيل موهبته. لم أكن مثلا أحلم أن أرسم أسماء الناس في غرف نومهم لكن كنت أضطر إلى القيام بذلك لكسب مال يخوّلني شراء معدات الرسم.

أيلبّي لبنان كبلد طموحاتك أم أنك كمعظم الشباب تفكر في الهجرة؟

أفكر في السفر لتأسيس نفسي والعودة. لا بدّ من أن أسافر أولاً ولكنني حتماً سأعود.

هل لديك أمل بلبنان؟

على كل لبناني العمل لتطوير بلده. سألني أحد الأشخاص عما إذا كانت رسومات الغرافيتي مدفوعة، فأجبته لا بل أنفق عليها من جيبي الخاص، عندها بادرني بالقول: {روح على بيتك واصرف مصرياتك على حالك!!}. أرفض هذه الفكرة، فكل واحد منا يستطيع في مجاله أن يحسن وضع بلده.

هل هذا النوع من الفنون كفيل بإذكاء الثورة؟

الثورة كلمة كبيرة، لكن من الممكن أن أذكي حب بيروت وإرادة التغيير. أفرح في حال غيرت رأي شخص واحد.

هل لديك مثال أعلى لبنانياً تريد الاقتداء به؟

لا أحد بصراحة.

وفي العالم؟

كل من يقدّم شيئاً ما في خدمة المجتمع أو حقق تغييراً ما هو قدوة لي.

أين ترى نفسك بعد 20 عاماً؟

أتمنى أن تكون لدي أعمال في المجال الغرافيتي في العالم، وأن أكون افتتحت عملا خاصاً بي في لبنان في هذا المجال. كذلك أحب ابتكار بنى تحتية للفنون في لبنان، ليس في الرسم فحسب بل في الموسيقى وغيرها...

back to top