رحيل محمد دكروب حكواتي الأدب والنقد

نشر في 25-10-2013 | 00:01
آخر تحديث 25-10-2013 | 00:01
رحل الناقد والأديب والشخصية اللامعة محمد دكروب (مواليد 1929) رئيس تحرير مجلة {الطريق} الفكرية، وصاحب مؤلفات عدة من بينها: {الشارع الطويل} (1954)، {شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة} (1981)، {وجوه لا تموت في الثقافة العربية الحديثة} (1999)، {على هامش سيرة طه حسين} (2009). وبرز من بين أعماله كتاب {جذور السنديانة الحمراء} الذي ضمنه تأريخ الحركة الماركسية في لبنان ونشوء الحزب الشيوعي اللبناني، بالإضافة إلى مؤلفات وأبحاث تؤرخ للأدباء والشعراء العرب والمسرحيين من جوانب مختلفة، خصوصاً النهضوية منها.
لعل أبرز ما يميّز مسيرة محمد دكروب، إلى جانب نشاطة الثقافي، سيرته الذاتية التي رواها بطرق متفرقة في هذا المنبر أو أو ذاك، وشخصيته التي كانت تدعو إلى التفاؤل والأمل والثقافة، فهو الشيوعي العتيق الرافض للأطر التنظيمية في الأحزاب.

 بدأ وعيه الثقافي يتبلور في مدينته الجنوبية صور من خلال الثقافة المحلية، فهو ابن {الفوَّال} صاحب مطعم صغير لبيع الفول الذي كان، على أميّته، يصحبه معه إلى سهرات ثقافية عامليَّة؛ ترك المدرسة الجعفرية ليساعد والده في عمله، لكن لم يمنعه ذلك من متابعة لوثة القراءة والاطلاع على ما يتوافر له من كتب ومطبوعات، لا سيما مجلات مصرية، منها: {الكاتب المصري} لطه حسين التي كانت المصدر الرئيس لثقافته.

يقول دكروب: {كنت عنيداً وغاضباً من تركي المدرسة، ومصراً على الوصول إلى ما أريد، وحين عملت في مشتل زراعي كنت  أروي ظمأ العمال بالماء الذي أجول به عليهم، فقررت أن أستفيد من أوقات الاستراحة لأقرأ كتاباً في اليوم أو نصف كتاب على الأقل... ومن الكتب المتاحة حينها، تلك المصرية الصادرة عن سلسلة {أقرأ}، وتنشر كتابات طه حسين والمازني والعقاد}.

سمكري مثقف

انحاز دكروب إلى مزاولة مهن موسمية لا قرار فيها: مزارع، فبائع خبز، فبائع ترمس وياسمين في المقاهي، إلى حامل حجارة باطون إلى معلم بناء،  إلى أن برع أخيراً في تصليح بوابير الكاز (سمكري). كان محله ملتقى للشبان للنقاش في أمور ثقافية، ولم يمنعه عمله من الاهتمام بلغته العربية من خلال التواصل مع بعض أساتذته السابقين أو حتى معارفه، ومحاولة كتابة قصص بأسماء مستعارة.

 منذ أواخر الأربعينيات، بدأ يكتب ما يشبه القصص أو السرديات لأحداث اجتماعية من مدينة صور الجنوبية، يصوِّر فيها، خصوصاً، معاناة الفقراء ومشاكلهم الحياتية... أرسل بعض هذه الكتابات إلى جريدة {التلغراف} باسم صاحبها  نسيب المتني الذي قتل في أحداث 1958، وكانت الجريدة تخصص كل يوم اثنين إلى أربع صفحات كبيرة لقضايا الثقافة والأدب، يُشرف عليها الكاتب رئيف خوري... فاختار رئيف من هذه الكتابات قصة كان دكروب كتبها عن حياته ومهنته.

   كذلك صدرت في أواخر الأربعينيات في بيروت مجلة {الألواح} للسيد صدر الدين شرف الدين، فأُتيح لدكروب نشر مقالات قصصية قصيرة! ومع بداية الخمسينيات، تعرّف إلى القياديين الشيوعيين فرج الله الحلو وحسين مروة، والتحق بالتيار الماركسي مع أنه، في بداياته، كان أكثر ميلاً إلى القومية العربية، وهذا الأمر سيظهر لاحقاً في مشواره الماركسي، إذ كان مزيجاً بين العربي والماركسي واللبناني والجنوبي، وكلفه الشيوعيون بتحرير {الثقافة الوطنية}، مجلة ثقافية سياسية صدرت بين الأعوام 1952 و1959، أسبوعية أولاً، ثم شهرية فكرية أدبية، شكلت محوراً في زمنها للشيوعيين.

شيوعي ليبرالي

 تجلى إحساس دكروب بأنه أصبح كاتباً معتبراً عندما نشر في مجلة {الأديب} لصاحبها ألبير أديب. يروي دكروب، في برنامج إذاعي، فضائل هذه المجلة في الوسط الثقافي، على عكس البعض الذي يقتصر موجة المجلات المهمة بين مجلتي {شعر} الشعرية و{الآداب} العروبية.

على أن الانعطافة الأساسية لعمل دروب في الصحافة الثقافية كانت في مجلة {الطريق} الفكرية الماركسية، وقد تولَّى مسؤولية تحريرها ما يقارب أربعين عاماً (-1965 2003)، تاريخ التوقُّف المؤقت، وسرعان ما عادت إلى الصدور قبل ثلاث سنوات مع رواج ضجيج الثورات. استقطبت مجلة «الطريق» كتَّاباً ومفكّرين من أنحاء العالم العربي، دأبوا على تزويدها بنتاجات قيِّمة لهم من دون أي مقابل مادي. كانت «الطريق» مدرسة دكروب في كل شيء ومنبره وروحه التي يتعلق بها، لذا اكتأب بعد توقف صدرورها.

 لم تمنع شيوعية دكروب من أن يكون ليبرالياً في ثقافته، رغم أنه كان يميل إلى ما يمكن تسميته الوجه النهضوي في الثقافة العربية، خصوصاً طه حسين وأفكاره، ما يعكس تأثير الطفولة والمراهقة على مسيرته، باعتبار أنه قرأ كتبه قبل الماركسية، ويفصح على سبيل المثال عن إعجاب بطه حسين الذي كان ينظر إليه اليساريون، خصوصاً من خلال كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، نظرة عدائية لانتمائه، برأيهم، إلى جبهة الغرب الليبرالي.

 أثر صداقته لحسين مروة النجفي والآتي من المدرسة الدينية كان حاسماً في بناء شخصية دكروب الذي بدا في سنوات ما بعد انهيار الشيوعية أشبه بقلعة تحاول الصمود في وجه الرياح العاتية، فرفاق درب دكروب اغتيلوا في بيروت على يد القوى الظلامية، خسر  أقرب المقربين إليه حسين مروة ومهدي عامل (1987)، وأتى انهيار المنظومة الشيوعية في أواخر الثمانينيات ليكسر بعض الآمال الأخرى، فمعظم الكتّاب الشيوعيين هجروا الشيوعية واعتنقوا أفكاراً جديدة، وبقي محمد دكروب متسلحاً بأفكاره، متصالحاً مع ذاته، فأعاد خلال هذه الفترة قراءة بعض ماضيه، وانتقد بعض الأخطاء التي ارتكبها الشيوعيون بحق كتّاب عارضوا السياسة السوفياتية.

مات محمد دكروب، وقبله مات وديع الصافي، هذا عصامي في الطرب وذاك عصامي في الأدب.

back to top