الإنفاق البذخي و«الملعقة الفضية» للقرن الـ 21
في سنة 1899 انتقد عالم الاجتماع ثورشتاين فيبلين بقسوة ما وصفه بـ"الاستهلاك البذخي" في أوساط الطبقة العليا الأميركية. وكتب يقول إن المكانة الاجتماعية كانت تستحوذ على عقول الأغنياء بشدة إلى درجة تدفعهم إلى المضي إلى مدى غير مبرر من أجل إظهاره. وكان مثله الشهير هو "أدوات المائدة الفضية": الملاعق الفضية المصنعة يدوياً، على الرغم من أنها لم تكن "متينة" بقدر يفوق نظيرتها المصنعة من الألومنيوم كما أنه يصعب تمييزها عنها، لتضفي درجة اجتماعية عالية ولتشير إلى الانضمام لما وصفه بـ"الطبقة المترفة".لم تعد الملعقة الفضية علامة على مكانة النخبة في المجتمع. وإذا أخذنا الشريحة التي تمثل أعلى 10 في المئة من الأسر في البلاد نجد أن أعلى 1 في المئة منها- التي تحقق أكثر من 394 ألف دولار في السنة- هي نسخة اليوم من الطبقة المترفة التي تحدث فيبلين عنها من حيث الثروة، لكنها ليست الأكثر شراء لأدوات المائدة الفضية. وبدلاً من ذلك تحصل الأسر المتبقية في هذه الجماعة ذات المكاسب المرتفعة- تلك التي تحقق ما بين 114 ألفاً و394 ألف دولار- على المركز الثاني وتفوز بالجائزة الفضية.
الاستهلاك الشرهالعديد من العادات الاستهلاكية في هذه "الطبقة الطامحة"- كما أطلق عليها- أي الأشخاص الذين يريدون الانضمام إلى فئة الـ1 في المئة الأعلى، أو الذين قد يبدون ضمنها أساساً، تنطبق عليهم فكرة فيلبين المتعلقة بالاستهلاك المفرط. وهم يبزون بفروق واسعة أي شخص آخر في الانفاق على الزهور والنباتات، والمياه المعبأة، وأواني الكريستال، والثلاجات الضخمة، وأحدث السيارات الرياضية الكبيرة الحجم.وعلى العكس من ذلك، وفيما تبلغ النفقات الإجمالية لأسر الـ1 في المئة الأعلى أكثر من 1.5 مرة فقط من بقية الـ10 في المئة الأعلى، فإنها تنفق بصورة بارزة كمية أكبر على "سلع الرفاهية والكماليات التي تعتمد على التجربة". وفي عام 2011، على سبيل المثال، أنفقت جماعة الـ1 في المئة الأعلى ثلاثة أمثال إنفاق "الطبقة الطموحة" على خدمات البساتين والحدائق وجليسات الأطفال وبطاقات الائتمان الحصرية من بقية أفراد فئة الـ10 في المئة الأعلى.ومن أجل التعرف على هذه الاتجاهات المتغيرة في الأنماط الاستهلاكية قمت مع أحد طلابي بتحليل دراسة إنفاق المستهلكين التي يصدرها مكتب إحصاء العمل. ومن خلال المعلومات التي توافرت من سنة 2010 و2011 كنا ننظر إلى نماذج كبيرة في عادات الاستهلاك الأميركية في المدن، ومجموعات الدخل، والعرق. وأظهرت النتائج نظرة مفاجئة لكيفية إنفاق الثروة في أميركا اليوم.الإشارة إلى المكانة الاجتماعية من خلال الاستهلاك تمثل تحدياً بقدر أكبر اليوم منه في زمن فيبلين. وقد خلق النمو الاقتصادي منذ عهد الثورة الصناعية طبقة متوسطة كبيرة، وجعل الأموال تتوافر لدى مزيد من الناس. وقدم لنا هنري فورد "النموذج تي. ليفيتاون" حول "منزل الضواحي" الذي جسد فكرة الحلم الأميركي.أما في عقود لاحقة، فقد أدى التصاعد السريع للموضة والأزياء- إتش أند إم، وفورإيفر 21، وأرماني اكستشينج- إلى توافر منافسة شديدة من سلع مقلدة سعرها 30 دولاراً بدلاً من 3000 دولار. وكان التقليد مقنعاً تماماً بحيث جعل من الحماقة شراء القطع الحقيقية، وقد جعلت ثقافة الأزياء "المقلدة" الثياب مؤشراً غير موثوق بالنسبة إلى الطبقة الاجتماعية. وفي ردها على ذلك تسعى فئة الـ1 في المئة الأعلى إلى إحداث مزيد من التأثير عبر السلع ذات الخصوصية العالية بدلاً من التفاخر بالماركات المختلفة. وعزفت تلك الفئة عن الملابس ذات الماركات الذائعة الصيت. وقد فازت في تلك الموجة شركات مثل "بوتيغا فينيتا" المصنعة لحقائب يد ومحافظ تخلو من ملصقات بارزة، لصناعتها الجلدية المتقنة.كما أن بدلات "بيسبوك" المخيطة خصيصاً لزبائن المحل في "سافيل رو" في لندن تعكس الثراء فقط بين أولئك الذين يعلمون مدى جودة العمل اليدوي للخياطين الذين يحيكون الأكمام والعراوي وأزرار البدلة بأيديهم.ليست مشترياتهم كلها من السلع الغالية الثمن أيضاً. فهناك طلاء الأظافر من ماركة "باليه سليبرز"، الذي اعتادت على استخدامه النساء في العائلات الثرية، بيد أنه ليس باهظ السعر على الإطلاق.بالنسبة إلى أعلى 1 في المئة لم يعد الاستهلاك المميز يتعلق بقطع الكريستال والسيارات الفاخرة من طراز "ماي باخ"، بل بـ"الرفاهية التي تعتمد على التجربة الشخصية".وعندما يتعلق الأمر بالكماليات والسلع الرفاهية التي لا يمكن تقليدها تكون شريحة الـ1 في المئة الأعلى هي الأكثر إنفاقاً طبعاً. وبالمقارنة مع بقية شريحة الـ10 في المئة الأعلى فهي تنفق ضعف الانفاق على الجامعات وثلاثة أمثال نفقات الدراسة في المراحل الابتدائية والثانوية، وثلاثة أمثال مبالغ الدروس الخصوصية لضمان دخول أبنائهم مؤسسات النخبة. كما أنها تنفق ما يصل بشكل تقريبي إلى 4 مرات أكثر على المساهمات السياسية والخيرية.ويحدد فيبلين فارقاً عميقاً بين طبقته المترفة وبين شريحة الوقت الراهن من الـ1 في المئة. وفي زمنه كان إنفاق التباهي يتسم بالطيش الى حد كبير. وشراء الملاعق الفضية لم يغير آفاق حياة الشخص، بل كان يؤشر فقط إلى مكانة اجتماعية عالية. أما الشهادة الجامعية، وهي علامة أخرى على المركز الاجتماعي، فكانت ممكنة فقط بالنسبة لأولئك الذين لديهم وفرة في وقت الفراغ.وعلى العكس من ذلك فإن إنفاق التباهي اللافت لدى شريحة الـ1 في المئة الأعلى اليوم ينطوي على هدف معين. فهو يؤثر على فرص حياة الشخص، ومعظم الأثرياء يعملون لساعات طويلة، كما أن الهدف من وراء معظم إنفاقهم هو توفير الوقت أو تحقيق المزيد من الأموال.وهم ينفقون بكثرة على التعليم من أجل ضمان حصول أبنائهم على ميزة كبيرة في سوق العمل مستقبلاً. وتعتبر الشهادة من جامعة النخبة، بدلاً من تمضية أوقات فراغ، خطوة مهمة نحو نيل مهنة. واضافة الى ذلك فإنهم ينفقون من أجل ضمان ماسبق أن حصل فيبلن عليه – الراحة. وسبيلهم الى ذلك يتمثل في المربية والبستاني ومدبرة المنزل وتذاكر الطيران على الدرجة الأولى في رحلات من دون توقف.العادات الاستهلاكية لدى شريحة الـ 1 في المئة الأعلى سوف ترسم سياسات المستقبل لأن أطفال هذه الفئة سوف يتمتعون بالقوة السياسية والاقتصادية. ويمثل إنفاق النخبة الجديد استثماراًفي مستقبل طبقتهم يؤشر الى ديمومة انقسام اليوم بين الشريحة التي تحقق القدر الأعلى في البلاد وبين كل شخص آخر. وليس في وسع حقيبة لويس فيتون أو ملعقة فضية تغيير ذلك.Elizabeth Currid* بروفيسورة زميلة في كلية السياسة العامة في جامعة جنوب كاليفورنيا وهي تعد كتاباً حول ثورشتاين فيبلين والاستهلاك في القرن الحادي والعشرين.