ديدنُها البحث عما وراء المظاهر الشاخصة، عما وراء المشهد والكلمة والصورة، وعما يخفيه الظل في ظله والصوت في صداه والمعنى في اقتراحاته اللامتناهية. وهي في هواية البحث عما وراء الأشياء تبدو منقادة بحدسها الذي يقارب الصدق أو يتماسّ معه، وباستبصار قادر على ملء فراغات الأسئلة. تلك الأسئلة التي لا تكاد تبزغ برؤوسها المتطلّعة، حتى تأخذها بتؤدة نحو فسحة من الأمان، حيث كل شيء محتمل وممكن دون صدام أو معاظلة.

Ad

كنتُ أتابع "فتحية الحداد" عبر نافذة فيسبوك، وأتعجب من جديتها في تقصي المعلومة والتعليق عليها وإثرائها بالتحليل والمتابعة، وكنتُ أتساءل بيني وبين نفسي عن جدوى كل هذه الجدية والمثابرة في وسيلة للتواصل الإلكتروني مثل فيسبوك؟ ومن ترى سيلتفت لهذا الجهد الذي يعبر كشريط راكض لا يكاد يأخذ من انتباه الرائي غير لمحة عابرة في جزء من الثانية؟! ولكن يبدو أن هذه التساؤلات حول النشاط الفيسبوكي لفتحية الحداد كان قد هداني إلى السمة الأساسية لهذه الباحثة، والتي تأكدت لديّ بعد قراءتي لكتابها (النص وما وراء النص)، وهي سمة التنقيب عما وراء الأشياء والظواهر والنزوع إلى تفكيكها بدقة وأناة، والصبر على استقصائها وتوثيقها وتدقيقها بمتعة خالصة.

ورغم اهتمامات فتحية الحداد المتنوعة، إلا أن "المسرح" كفن درامي وكنص وكوثيقة اجتماعية كان له الحظ الأوفر في نشاطها البحثي. ويبدو أن للوراثة دوراً في هذا الميل نحو المسرح وشؤونه والانتباه لدوره في تأصيل ما هو ثقافي واجتماعي، فالباحثة في كتابها (النص وما وراء النص/ مسرحية "عتيج الصوف ولا جديد البريسم" نموذجاً) تكاد تبعث جهد والدها (حسين الصالح الحداد) من غبار النسيان، وتجعله في تناصّ مستمر مع حركة الزمن المطردة عبر هذه الدراسة المستوفاة في شروطها المنهجية والتوثيقية.

في حديث عابر مع المؤلفة حول الكتاب، أفادتني بأنها حصلت بموجبه على جائزة الدولة التشجيعية عام 2007. وأتصور أن من أسباب استحقاق هذا الكتاب للجائزة ليس فقط الجهد المبذول في الاستقصاء والتوثيق، وإنما لمنهجه الحديث في الاستفادة من معطيات النقد الحداثي والاتكاء على نظرياته ومرجعياته المتداولة حالياً، كنظرية التلقي وعلم الدلالة وعلم اللغة والتناصّ والتفكيك. ويبدو أن ثقافة الكاتبة الفرنسية ومعرفتها بهذه اللغة هيأت لها سبل التعامل مع هذا المهاد النقدي المهم. نضيف إلى ذلك ما تميّزت به لغة الكاتبة من سلاسة ووضوح وتمكّن، دون خفّة أو معاظلة، مع إمكانية أن تدهشك ببعض التعابير ذات الظلال الشعرية أو القريبة منها.

وتبدو المعالجة البحثية في مجملها متكئة على "التناصّ"، حيث النص المسرحي "عتيج الصوف" في تقابل أو تجاور مستمر مع المعطيات المحيطة به. ففي البدء هناك نصوص وتجارب مسرحية معاصرة للنص المقصود تستدعي المقارنة والمقاربة. وفي رحلة البحث هناك ما يتناص مع النص من خلال اللغة أو اللهجة المحلية، ومن خلال الأمثلة الشعبية والموروثات، ومن خلال المتغيرات الثقافية.

وفي مستوى آخر من التناصّ، تدلف الكاتبة إلى عملية تعدد القراءات للنص المسرحي، الذي يتحول بفعل مستويات القراءة المتعددة إلى مجموعة خطابات لتدرجات مختلفة من المتلقين: المخرج، الممثل، الجمهور. وإذا تمت طباعة المسرحية بين دفتي كتاب فتلك حكاية أخرى لتعدد القراءات وسلسلة التلقي.

ولاستكمال مسارات أخرى تنداح حول النص كما تنداح دوائر الأجرام السماوية حول الشمس، تأتي الباحثة على ذكر بعض المراجع التي تتماسّ مع النص، واعتبرتها بمثابة نصوص مجاورة أو محاذية للمتن، والمتن هو النص المسرحي قيد الدراسة. بل الأجمل من ذلك إدراج الكاتبة للصورة الفوتوغرافية والأداء الموسيقي/ الغنائي المصاحب للعرض ضمن أدوات التلقي، ونوّهت بأنه حان الوقت للاستفادة من هذين العنصرين حين التصدي للبحث، فذلك كفيل بإعادة صياغة علاقتنا بالعمل الأدبي والموروث المسرحي وتطوير أدواتنا في عملية التلقي.