صبر الكتابة وكتابة الصبر

نشر في 14-01-2014
آخر تحديث 14-01-2014 | 00:01
 طالب الرفاعي أحياناً يسألني بعض الكتّاب، وتحديداً الشباب، عن أهم ما يجب أن يتحلوا به، لبلوغ شواطئ مؤملة من وراء الكتابة. وإلى جانب ضرورة القراءة اليومية الممنهجة، المنفتحة على مختلف الكتابات المبدعة، المشهود لها، محلياً وعربياً وعالمياً، والتي أقرب ما تكون إلى تمعن الدارس. أقول وعن قناعة كاملة: الصبر!

الصبر درع الكاتب الذي يتقي به إصابات الخيبة وخيبة الإصابات! فأعلى قامات الكتابة الروائية والقصصية والشعرية والمسرحية والنقدية في العالم، عانت الكثير من التجاهل والتهميش والنكران والحروب الظالمة، الى حين فَرَضَ إبداعها المتجدد والنافذ إلى قلب حقيقة الواقع، وجودها الإبداعي وتالياً الإنساني، ونالت ما تستحق من اهتمام وتقدير وشهرة.

الجميع يعيش عصر ثورة الاتصال، وما تبعها من تعزيز الفردية، بدءا بالسلوك الإنساني الشخصي وتمزيق محبات ووصل أفراد الأسرة، مروراً بنشر كل ما يخطر في بال أي كاتب عبر كتابات الاعتراف اليومية الشخصية، أو ما يُعرف بنظام المدونات الإلكترونية « بلوغر – Blogger»، وانتهاء بوسائل التواصل الاجتماعي، وطباعة الكتاب عند أي ناشر.

ما عادت طباعة كتاب بالأمر الصعب، محلياً وعربياً ولا عالمياً، الأمر الأصعب هو أن يركب أي كاتب شاب قاطرة الكتابة الإبداعية، وأن يجد له موطئ قدم ومقعداً بين أسماء تنبت يومياً في كل بيئة، وتقدم نتاج فكرها بصيغة إبداعية لافتة، وأن يستطع إثبات تميّز نبرته الكتابية، بين صراخ عالٍ يجتاح العالم، وإلا وجد نفسه مرمياً خارج القاطرة، وظل يتابعها بحسرة وهي تبتعد بركابها.

الصبر والتحصيل الأدبي المتجدد والمستمر هو الوصفة السحرية للكاتب الناجح، فما عادت الكتابة تعبيراً عن أحاسيس ومشاعر تختلج في دواخلنا، ولا منشوراً سياسياً نعبر به عن قناعاتنا الحزبية فيما يدور حولنا من أوضاع، ولا قصة رومانسية أو جنسية تفتح عينيّ القارئ على الممنوع، إنها كل هذا مجتمعاً مُصَاغاً بحبكة إبداعية متفردة، لا تشبه إلا نفسها. ولا يمكن أن يتآتى هذا لأي كاتب إلا بمثابرة وجهد ومعاناة، وقناعة بعدم تسرع النشر. وإعطاء الأذن الصاغية لكل نقد أدبي موضوعي ومستحق، دون التهرب إلى إسعاد النفس بسماع عبارات الكذب والمداهنة. فقاطرة الكتابة الإبداعية مزدحمة بركابها، وكل كاتب يحمل عالمه المتفرد، ولن يكون لأي كاتب سمة تخصّه، ما لم يتحل بالصبر.

يبلغ الصبر على الكتابة حالة النضج، متى ما جاء مقترنا بكتابة الصبر. صبر الحياة المرّ! معاناة البشر الذين همشتهم الحياة اليومية حتى صاروا نملاً يدبّ على الأرض، وتدوسه أقدام العابرين!

إن تاريخ الكتابة الإبداعية في القصة والرواية والمسرح، يقول بما لا يدع مجالاً للشك، أن أنجح الأعمال على مرّ العصور، التي ظلت باقية وستبقى إلى ما شاء الله، هي تلك الأعمال التي تناولت معاناة الإنسان، وقدرته الخارقة على المرور في منعطفات الوجع، واحتمال الأذى النفسي والجسدي. فتصوير معاناة فردٍ هو بمنزلة خلق صورة لمعاناة البشرية بأسرها، وهذا ما يجعلنا نتعاطف مع أي عمل فني مبدع، وتتندى عيوننا بدموعها دون استئذاننا!

الصبر على الكتابة وكتابة صبر الحياة، مرّ الحياة، وجع الحياة، حياة بيئة الواقع المحلي في كل مكان، ليس معناه الإغراق في الواقعية، ونقل محن الواقع على مرآة الفن كما هي، فالفن يكتسب سحره من الخيال، ويكتسب عظمته متى ما جاء هذا الخيال عجائبياً وشبيهاً بحياة يتمنى المرء لو تحققت على أرض الواقع، وواقع الأرض!

الكتابة في جوهرها كشف لبؤر مظلمة بغية فضحها وإدانتها، وتسجيل لحظات فرح عابرة، لكنها حياة مجهِدة، والوصول إلى الثمرة الأشهى، لا يحلّ إلا بموسم القطاف، وكم يتأخر أحياناً هذا الموسم.

back to top