كان كتاب توماس بيكيتي المبهر الذي أثار الكثير من المناقشات، "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، سبباً في توجيه قدر كبير من الاهتمام إلى مشكلة اتساع فجوة التفاوت بين الناس، ولكن الكتاب ليس قوياً في إيجاد الحلول، وكما يعترف بيكيتي فإن تنفيذ اقتراحه الذي يقضي بفرض ضريبة عالمية تصاعدية على رأس المال (أو الثروة) "يتطلب مستوى مرتفعاً للغاية وغير واقعي بلا شك من التعاون الدولي".
لا ينبغي لنا أن نركز على الحلول السريعة، فالهم الحقيقي بالنسبة إلى صناع السياسات في كل مكان يتلخص في منع الكوارث، الأحداث الناشزة الأعظم شأناً على الإطلاق. ولأن التفاوت بين الناس يميل إلى التغير ببطء فإن أي كارثة ربما تقع بعد عقود في المستقبل.ويصف بيكيتي هذه الكارثة- العودة إلى مستويات من التفاوت غير معهودة منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- بإطناب في كتابه، وفي هذا السيناريو، تصيب أقلية ضئيلة الثراء الفاحش، ليس لأن أفرادها أذكى أو أكثر جهداً في العمل من أي شخص آخر، بل لأن القوى الاقتصادية الأساسية تعيد توزيع الدخول على نحو متحيز.في كتابي "النظام المالي الجديد: المجازفة في القرن الحادي والعشرين"، اقترحت "التأمين ضد التفاوت" كوسيلة لتجنب الكارثة، ورغم التشابه في العنوان فإن كتابي مختلف تماماً عن كتاب بيكيتي، فكتابي يدعو صراحة إلى التمويل العلمي المبدع والتأمين، سواء في القطاع الخاص أو العام، بهدف تقليص فجوة التفاوت، من خلال إدارة كل المخاطر التي تسهم في توسيع فجوة التفاوت كميا، وأنا أكثر تفاؤلاً بشأن خطتي لمنع التفاوت المأساوي مقارنة بتفاؤل بيكيتي بشأن خطته.إن التأمين ضد التفاوت من شأنه أن يلزم الحكومات بوضع خطط طويلة الأجل للغاية لجعل معدلات الضريبة على الدخل أعلى تلقائياً بالنسبة إلى ذوي الدخل المرتفع في المستقبل إذا تفاقم التفاوت بين الناس بشكل ملحوظ، مع عدم تغيير أي ضريبة خلافاً لذلك. فتماماً كما يتعين على المرء أن يشتري وثيقة تأمين ضد الحريق قبل وليس بعد احتراق بيته، يتعين علينا أن نتعامل مع خطر التفاوت قبل أن يصبح أشد سوءاً فيخلق طبقة جديدة من الأثرياء الذين يستخدمون قوتهم ونفوذهم لتعزيز مكاسبهم.في عام 2006، اشتركت مع ليونارد بورمان وجيفري روالي من مركز السياسات الضريبية التابع للمعهد الحَضَري ومؤسسة بروكنجز في كتابة مشروع بحثي تناول بالتحليل سبلاً متنوعة لتنفيذ هذه الخطة، وفي عام 2011، اقترح إيان آيرس وآرون إدلين فكرة مماثلة.يؤسس لهذه الخطط افتراض مفاده أن درجة ملموسة من التفاوت صحية اقتصاديا، ومن الواضح أن احتمال إصابة الثراء يدفع العديد من الناس إلى العمل الجاد الشاق، ولكن التفاوت الهائل بين الناس لا يُحتَمَل.بطبيعة الحال، ليس هناك ما يضمن تنفيذ الحكومات فعلياً لخطة التأمين ضد التفاوت، ولكنها من الأرجح أن تتبع مثل هذه الخطط إذا كانت مُشَرَّعَة بالفعل وأصبحت نافذة المفعول تدريجيا، وفقاً لصيغة معلومة مسبقا، وليس بشكل مفاجئ كما في بعض الانحرافات والثورة على ممارسات الماضي.ولكي تكون فعّالة حقا، ينبغي للزيادات في ضرائب الثروة- التي تقع في الأغلب على المتقاعدين كثيري التنقل أو غيرهم من الأثرياء- أن تتضمن عنصراً عالميا؛ وإلا فإن الأثرياء سوف يهاجرون ببساطة إلى أي بلد حيث معدلات الضرائب هي الأدنى، وقد أعاق عدم شعبية الضرائب على الثروة التعاون العالمي، ففنلندا كانت تفرض ضريبة ثروة لكنها ألغتها، وكذلك فعلت النمسا والدنمارك وألمانيا والسويد وإسبانيا.إن زيادة ضرائب الثروة الآن، كما يقترح بيكيتي، خطوة سوف يراها كثيرون ظالمة، لأن هذا قد يرقى إلى فرض ضريبة بأثر رجعي على عمل قام به المرء في الماضي لجمع هذه الثروة، وهو تغيير لقواعد اللعبة، ونتائجها، بعد انتهاء اللعبة. أي أن الأشخاص الأكبر سناً الذين عملوا جادين طيلة حياتهم لجمع الثروة سوف يخضعون لضريبة نتيجة لحرصهم وتدبيرهم لأشخاص لم يحاولوا حتى أن يدخروا، وإذا كانوا قد علموا أن ضريبة سوف تُفرَض على ثرواتهم فربما ما كانوا ليدخروا كثيرا؛ وربما قرروا لو علموا ذلك أن يسددوا ضريبة الدخل ويستهلكوا البقية، مثلهم كمثل الجميع غيرهم.وعلاوة على ذلك، بمجرد أن يفهم الناس حقيقة ضريبة الثروة كما يقترحها بيكيتي، فربما يقرر الأثرياء إنجاب المزيد من الأبناء، لأن الثروة في هيئة أبناء لا يمكن إخضاعها للضريبة، ولهذا السبب فربما كان من الأفضل إخضاع الدخل للضريبة والحفاظ على الإعفاءات الضريبية في مقابل المساهمات الخيرية خارج نطاق الأسرة. وإذا كان لضريبة الثروة أن تفرض فإن تشريعها الآن بحيث لا تصبح نافذة المفعول إلا في المستقبل- وفقط إذا تفاقمت فجوة التفاوت كثيرا- من شأنه أن يستبق التصور بأن قواعد اللعبة تغيرت بعد انتهاء المباراة.إن الميزة في زيادة ضريبة الدخل هي أنها من الممكن أن تستند ليس فقط على الدخل الحالي، بل أيضاً على متوسط الدخل على مدى سنوات، ومن الممكن أن تسمح بالإعفاءات عن الاستثمارات، فتشترك بالتالي في بعض المظاهر مع ضريبة الثروة من دون معاقبة أولئك الذين ادخروا أكثر من غيرهم لجمع المزيد من الثروة، وعلاوة على ذلك فإن تشريع خطة طويلة الأجل من دولة واحدة أو بضع دول اليوم، قبل حدوث أي تأثير كبير على مدفوعات الضرائب الفعلية، من شأنه أن يساعد في تشجيع إقامة حوار دولي حول سياسات المستقبل اللازمة للتعامل مع التفاوت. وهذا من شأنه أن يخلق حيزاً لاستجابة ضريبية أكثر تجانساً بين البلدان، وبالتالي الحد من قدرة أصحاب الثروات الفاحشة على التهرب من الضرائب بتغيير مواقعهم.إن كتاب بيكيتي يُعَد مساهمة لا تقدر بثمن في فهمنا لديناميكيات التفاوت المعاصر، فقد حدّ خطراً جسيماً يهدد مجتمعنا، وينبغي لصناع السياسات أن يتحملوا المسؤولية عن تنفيذ وسيلة عملية قابلة للتطبيق للتأمين ضد التفاوت بين الناس.* روبرت جيه. شيلر | Robert J. Shillerحائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد عام 2013، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ييل، والمؤلف المشارك مع جورج أكيرلوف لكتاب "الغرائز الحيوانية: كيف تحرك السيكولوجية البشرية الاقتصاد ولماذا يشكل هذا أهمية بالنسبة إلى الرأسمالية العالمية".«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
منع كارثة التفاوت
20-05-2014